زنجي
كنت أنا و "زنجي" في طريقنا إلى كوبري قصر النيل, عبر شارع طلعت حرب, نتحدث عن مجموعة من الأزمات الشخصية, أنا بميلي الدائم إلى التفاؤل عموما وهو بطريقته المتفهّمة للمشاكل بجميع أنواعها, لم تكن هناك أزمة حقيقية في الحديث ذاته , إنما مرت شقراوتان في ملابس منزلية خفيفة أمام مول طلعت حرب, أجنبيتان على الأرجح و بدا أنهما بدأتا تدركان الوضع فبدأت كل منهما في شد ملابسها العليا إلى أسفل قدر الإمكان, استلزم الأمر الصمت التام للحظة , لمراقبة رد فعل الجماهير المستندة إلى جدار المول و على السيارات المصطفة على الرصيف المقابل أمام استفزاز ليلي مفاجئ كهذا , توتّر زنجي من إحتمالية تحرّش موشك , هدأته أن هناك دورية أمن قريبة لابد أن تكون متأهبة لتحرشات منتصف الليل كما أن الأمر لا يمكن أن يقفز فجأة هكذا إلى قمة العنف الجسدي دون مقدمات لم نرها بعد , غمغم في شكه في ذلك, ثرثرنا لدقيقة عن الخبرة التي لابد اكتسبها الأمن المصري في مواجهة هجمات التحرش الموسمية, كنا نضحك في الحقيقة و نحن نسير خلف الأجنبيتان بمسافة , ثم نسينا أمرهما تماما بعد أن كان علينا عبور ناصية الشارع المؤدي إلى سينما أوديون, قلت لزنجي: إيه رأيك ندخل "إبراهيم الأبيض" ؟ , توقف زنجي فجأة , بينما التفتت إلينا شابة في أواخر العشرينات, حجاب و تونيك و جينز, كانت تسير أمامنا منذ لحظة إلى جوار شاب يحمل طفلة صغيرة, رفع زنجي كفيه أمامه وهو يغمغم :أنا آسف.. مكنتش أقصد . قالها بشكل مرتبك إلى حد أنني سمعت فقط "أقصد ", في نفس اللحظة التي قطعت صرخة الفتاة شارع طلعت حرب باتجاهيه : يا حيوان..
**
نسبة كبيرة من البشر تسير وهي تأرجح يديها إلى الأمام و الخلف بطريقة ميكانيكية, يحدث ذلك غالبا أثناء السير المرهق أو أحيانا الرائق, يفتقد ذلك مرضى الباركنسون و آخرين, لكنّ سوء الحظ هو أن تأرجح يدك إلى الأمام بينما تقرر شابة في العشرين متزوجة حديثا و لديها طفلة و شقة في فيصل, أن تبطئ من خطواتها أمامك لأسباب مبهمة فيستقر ظاهر يدك اليسرى على ردفها الأيمن في اطمئنان..
في الوقت الذي كنت سألت فيه زنجي بهلع "فيه إيه ؟ " فيجيب " إيدي خبطت فيها !" , كانت الشابة تحكي لزوجها المنزعج تفاصيل ما حدث بعفوية مذهلة, أخبرته المدام فيما يشبه الصراخ أن "زنجي" قد وضع يده على "مؤخرتها", مستخدمة اللفظ العامي الدارج للكلمة الأخيرة مضافا إليها ضمير الملكية ثمين الدلالة في موقف كهذا, كنت متأكدا أن الرجل لديه في دمه الآن بالفعل تركيز كاف من الأدرينالين العدواني, المطلوب للسير مع أي أنثي في شارع طلعت حرب بعد منتصف الليل, لذلك حاولت قدر الإمكان أن أشرح أنا الموقف بدلا من "زنجي" الذي واصل الغمغمة بارتباك و لكن في اتجاه الزوج هذه المرة, اقتربت خطوة من الرجل الذي أودع طفلته الوادعة في حضن ماما ثم استدار إلينا , قلت فقط : "حضرتك" , فسدد لكمة مباشرة, لكمة من النوع الموصول, الذي لا يدع لك فرصة للترنح ثم الوقوف مرة أخرى في مواجهته, بل الترنح ثم السقوط البعيد إلى الخلف, كأنه كان يسدد في مرتبة اسفنجية سميكة, سدد الرجل لكمته إلى فك زنجي, و بينما كان الزوج يستعيد توازنه , كنت بدوري قد سددت إليه لكمة مماثلة فيطير إلى منتصف الشارع..
**
الذين تجمهروا حولنا كان نصفهم على الأقل لا يفهم ما حدث, شجعني ذلك على مواصلة الصراخ خوفا من أن يتناقل الجمهور تفاصيل ستسحب كثيرا من رصيدي أنا و "زنجي ", الرجل كان قد قام , تحسس فكه و رأى الدم على أنامله و اندفع إلينا كالسهم فحال بينه و بيننا الشباب الذين ركضوا من كل اتجاه, أما زنجي فكان قد نهض بصعوبة وهو يتأوه ممسكا بفكه , كنت أصرخ: بتمد إيدك ليه يا حيوان قبل ما تفهم. , و كان يصرخ: يا ولاد الـ"*****" يا "********" أنا حطلع دين أمك يا "***" إنت وهوّ ..
واصلنا الصراخ المتبادل, يحول بيننا شباب كل منهم كان منذ لحظة في وضعية المتحرش المثالي بالأجنبيتان, كل واحد منهم كان أقرب إلى موقفي أنا و زنجي الآن و أكثر مناسبة للدور , انتبهت أن الرجل يبحث عن موبايله , رفعه إلى أذنه ثم صرخ : يا محمد..تعالى دلوقتي..إنت و فادي و علاء و سامح و عاشور و محمدي..., صرخ بشكل جحيمي: بقولك حط إيده على "هنااااء"...حط إيده على هناء يا محمد..
"زنجي" كان جواري يستند إلى سيارة قريبة و يشدني إلى الخلف ممسكا فكه باليد الأخرى,لحظة و افلتني ثم رفع الموبايل إلى أذنه و تحدث بصعوبة و بصوت مكتوم وهو لايزال ممسكا بفكه :يا حسين...هات أبو الفضل و المصري و جودة و تعالوا فورا..
**
رفع أمين الشرطة صوته ليسمعه الجميع : كله يوعى.., مزيحا بيديه عدد من الشباب الشهم ليصل إلى قلب التجمهر, اقترب الأمين من مركز الدائرة حيث أقف و أنا زنجي على ناحية من الحائط البشري الذي يفصلنا عن الزوج المغدور , صاح بصوت سلطوي ضخم: فيه إيه...إيه اللي حصل؟ , صرخ الزوج وهو يشير بيديه الإثنين : العيال ولاد الـ *** دول واحد فيهم بـ*** مراتي.., غمغم زنجي بما لم أتبينه و صحت: يا عم إنت إفهم, إنت ماشفتش حاجة أصلا عشـ..و قبل أن أتم جملتي كنت أرى خلف الجماهير من بعيد, بعيدا بمسافة كافية , تاكسي هيونداي أكسنت يتوقف و ينزل منه 6 شباب باندفاع , ألقى أحدهم بالنقود إلى السائق بينما أندفع الخمسة الباقين إلينا في ركض غاضب عنيف, التفت الجميع مرة واحدة إلى حيث أنظر ورائهم,و من ورائي كنت أسمع صوت "حسين" يسأل "زنجي" : فيه إيه..حصل إيه..فعرفت أن أنه وصل بصحبة جودة و المصري و أبو الفضل, مباشرةً أشار إلينا الزوج فالتفت الغاضبين الـ 6 نحونا, لم يحتج الأمر إلى مقدمات, تنحّى الحائط البشري , تنحّى أمين الشرطة , حين رفع أحد الستة عارضا خشبيا التقطه من جوار المول ثم اندفع إلينا بفكّ مفتوح و عيون متسعة على آخرها..
**
المعركة لم تكن تدور على النحو الذي توقعت أن يحدث حين يصل المدد إلى الجانبين, لم يكن هناك المخلصاتية الذين يعود إليهم الفضل غالبا في حل الأمور , كما لم يكن هناك أي مناوشات مبدئية تسمح بإعادة تقييم الأمور, الجميع فرّ من بين الخصوم حين لاحظوا الوحشية التي قرر العظماء الستة _ الذين قطعوا الطريق من فيصل رأسا إلى وسط البلد للذود عن شرف المنطقة_ معالجة الأمور بها, خشبة من جوار المول بالإضافة إلى ما يشبه الجنزير في يد آخر إلى جانب صرخات حماسية خالصة من الجميع , على الجانب الآخر تردد فريق الجامعيين النبلاء للحظة حين خلت الساحة أمامه إلا من الإشتباك الحتمي, لكنه استعاد توازنه و اندفع في الإتجاه المقابل بحسم, حسابيا كان لكل واحد من العظماء الستة جامعي أنيق في مواجهته, فيما عدا زنجي الذي كان عليه أن يواجه الزوج و أحد مناصريه معا, من جانبي, كان قد اختارني العنتيل ذو الجنزير لمواجهته بينما كنت آمل في "الزيّاط" ذي الكاب الذي يملأ الدنيا صياحا و وعيدا بما يشي بقلب هش مبدئيا, الأمر الذي كان سيتيح لي أن أتبادل معه مجموعة خفيفة من الركلات و اللكمات و السبّ و ينتهي الأمر, أما الآن, فعلي أن أستقبل الحلقات المعدنية المتراصة على جسدي بكل نبل, درنا حول بعضنا مرتين, جرى خلفي خمسة أمتار في اتجاه المول, استدرت بشكل مفاجئ , توقف, صفعته , تجمد للحظة ثم هوي بالجنزير على جانبي , حينها فقط فيما يشبه الرؤية كان بإمكاني كشف الساحة كلها بينما يتأرجح الجنزير في اتجاهي, الشارع خاو تماما إلا من 6 اشتباكات موزعة أمام المول بعرض الطريق, زنجي يتلقى الركل و الصفع ببسالة ثم يأرجح قبضته إلى معدة الزوج , المصري كان يدهس الزيّاط ذي الكاب في الركن, أبو الفضل و جودة و حسين كانوا في معادلات متزنة, شعرت بالجنزير على ذراعي و ظهري, فكرت للحظة: هيّ فين هناء ؟..
**
في القسم, كان الضابط على ما يبدو في حالة من الإنكار, يقلب بصره بيننا, حوالي سبعة اشخاص يتحدثون في الوقت نفسه فيما يشبه مبارايات الديكة, و "هناء" التي وقفت جوار زوجها تحمل طفلتها و ترتجف, بدا عليه أنه لا يصدق أن "عركة" قوطية كالتي حكاها له أفراد الأمن قد حدثت بسبب هذه الشابّة محدودة المواهب, ذلك أن الضابط خلال حكي الزوج المستفيض تفصيلا عما حدث تحركت عيناه على نحو تلقائي إلى مؤخرة الزوجة , موقع الحادث , الذي لم ير فيه أي فتنة مقنعة أو موحية حتى للمتحرش المفترض , لذلك التفت فورا إلى "زنجي" , سأله عن عمله و محل إقامته و سنه ,أجاب زنجي بلثغة من أثر تهشيم أحد قواطعه الأمامية ثم أقسم أنه لم يقصد و أن الأمر حدث بشكل عشوائي تماما , بالإضافة إلى استعداده الفوري للإعتذار عن أي أضرار غير مقصودة بالمرة, نهض الضابط و طلب من الجميع الخروج فيما عداي أنا و زنجي و الزوج و هناء, تنحى بي جانبا ثم همس : صاحبك باين عليه إبن ناس...و مش وش بهدلة..بس لو قلت لي دلوقتي إنه فعلا مدّ إيده على الست دي انا حخلّص الموضوع ودي..لو كدبت عليا إنت وهو حتباتو في القسم ..
نظرت إلى الضابط بعمق, كان في عينيه فضول غير مهني إطلاقا, " والله حضرتك إيده خبطت فيها من غير قصد , حد حيعمل كده في واحدة ماشية مع جوزها "..صمت الضابط ثم ربت على كتفي و التفت إلى الجميع قائلا: دلوقتي فيه عندنا حالة تحرش و عاهة مستديمة و شجار في الطريق العام...نخلص الموضوع ودي ولا تباتو كلكوا في القسم ؟
**
ثلاث ساعات , خرجنا بعدهم جميعا إلى الشوارع الخاوية, و بينما كنا نسمع تواشيح ما قبل الفجر من المساجد القريبة, تركنا زنجي فجأة و اتجه إلى الرجل الذي كان لازال واقفا إلى جوار زوجته أمام قسم الشرطة , توقف زنجي على بعد مسافة كافية منهم : " على فكرة أنا فعلا ما كنتش أقصد .." , التفت إليه الرجل و حدق فيه للحظة ثم قال وهو يشيح بنظره: أنا عارف.., ضم إليه جيدا زوجته و ابنته و عبروا الطريق...
17 comments:
اول مره اعلق بعد مرات من القراءه الصامته
قصه جميله أوى .. و اجمل مافيها نهايتها " انا عارف " ... معلش مش لاقى كلام اوصف بيه مدى التمكن اللى موجود فى القصه
ايييييييييي
بجد!!! انا عارف!!!! يا لهوى
امَال ايه فضا اهله ده
ربنا يصبركو
:D
فانتازيا ( فنظزية) رائعة
:يا حسين...هات أبو الفضل و المصري و جودة و تعالوا فورا..
عاجباني الثقة اللي في الجملة ديه أوي
السلاسه دي بتجبها منين!!!
مش ممكن
بصحيح مش ممكن!
الله يسامحك !شدتنى بطريقة
غير معقولة حتى اخر كلمة ثم يقول
الزوج انا عارف !نزلتنى لسابع ارض
من هذا الرد (الساقع)الغير متوقع بالمرة !لماّ هو عارف ليه كل ده ؟تنفيس عن غضب مكبوت !
هل لىّ بسؤال وارجو الاجابة
هل انت محترف بمعنى كاتب محترف
والا وعلى راى شمعون
السلاسة دى جايبها منين؟
ولاد الحرام ما خلوش لولاد الحلال حاجة.
معظم اللى بيعملوا الحركة عن عمد بيحلفوا انه ما كانش قصدهم، لكن الحقيقة فين ..
السلام عليكم
اولا حمدلله على السلامه
ثانيا
بوستك رائع
اتمنى انك تشرفنى فى مدونتى
دمت بخير وسعاده
جميل جداً جداً
تحفه
سردك هايل
النص يحمل كثيرا من عشوائية المواطن المصرى
او عفويته
من اول كلمة لاخر كلمة كنت فى الحدوته
جميل جدا
عاااااارف
يا راجل
..
احم احم بعيد عن رد الزوج الأخير اللي صدمني فعلا
فالقصة ببساطة بتوضح الجو المشحون اللي بقى موجود فعليا بسبب حوادث التحرش
بقى في حالة من التوتر و مفيش حاجة معناها ماكنش قاصد يمكن من الحالة المنتشرة
القصة جميلة
اول مرة اقرا لك بس اكيد مش اخر مرة
قصه اكئر من رائعة
اعتقد ان الزوج العارف كان لا يملك الا ان يتصرف كما تصرف ليس عن فضا او فراغ لكن لان زوجته المصونة فى استنجادها به كانت تنتظر موقف معين وكان اى تصرف او رد عاقل بمثابة موقف متخاذل سيسقطه من نظرها
لا اعرف اذا كنت تذكر مسرحية الهمجى لمحمد صبحى بعد ان اعطوه مخ غير همجى استنجدت به زوجته لان صديقه يراودهاعن نفسها فكان رده وتصرفه المتحضر العاقل سبب ثورة كبيره من زوجته التى اعتبرت انه فقد نخوته
اسفه على الاطاله
تحياتى
أنت مش حتبطّل تبهرني يا ولا؟
تعرف يا محمود ...من ضمن كل هذا الفضاء الإنترنتي الواااسع اوي ..تبقى كتاباتك من احلى الحاجات اللي الواحد بيقراها
انت موهوب ..ومش موهبة عادية ..موهبة فظيعة بجد ..
تحياتي ليك القصة عجبتني اوي ..بسيطة وسلسة ..وعلى رأي اللي قال ..انت بتجيب السلاسة دي منين ؟؟
تحياتي ليك ، اتمنى زي ما شفنالك حاجات منشورة في الشعر نشوفك ناشر في القصة
تحياتي
as usual great
masha2 allah
can't say more enta Ostaaaaaaaz
please check my blog and let me know if u like my short stories
http://moshahidah.wordpress.com/category/%D9%82%D8%B5%D8%B5-%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%B1%D8%A9/
تعرف انا لما لقيته فى الاخر قرب منهم وهيكلم جوزها
قلت هيغيظه مثلا ويقوله انا فعلا كنت قاصد ويمشى ويسيبه مولع وتنتهى القصه على كدا
بس اصرار زنجى على موقفه ورد الزوج العجيب دا كان مفاجئه ليا
كالعاده لما بقرالك
مبهر دايما
وموهبتك فذه
Post a Comment