Wednesday, April 25, 2012

جَيْلان




"جَيْلان"


1

ارتبكتُ، ثم أدركتُ أنها فرصة، كانت تسير وحدها ببطء أمام إحدى الفاترينات في "سيتي ستارز" ، المرة الأخيرة التي رأيتها فيها كانت منذ شهور، في صورة حسابها على فيسبوك، لم أصدق أنها هي: تحجّبت، تقف في صالة بيت، تحمل فوق كتفيها طفلاً يشبهها قليلاً في رسمة الوجه، يبتسم كلاهما في سعادة.
حينها ورغم أني قد قمت بالبحث عنها عدة مرات على فيسبوك إلى أن حالفني الحظ، لم أضغط على طلب الإضافة، ترددت قليلاً، فكرتُ أن أرسل لها رسالة، ثم تراجعت، ما حدث في اللقاء الأخير بيننا كان مزعجاً، وما حدث لي أنا تحديداً منذ هذا اللقاء، أقنعني أني لا أحتاج لذلك، لكن هذه المرة أدركت أن الفرصة سانحة لتصفية حساب قديم، لم يغلق بعد وآن تسويته بالكامل.
رتبت ذهني جيداً وتهيأت، ثم تحركت في الاتجاه المقابل لها بحيث يبدو لقاءنا عفوياً، كانت تتأمل الفاترينة في اندماج تام، الأمر الذي احتاج أن أقترب كثيراً، أتوقف فجأة مندهشا، ثم أناديها:
_ جيلان!
رفعتْ رأسها، اندهشتْ وحدقتْ فيّ جامدة للحظة، ثم ابتسمت في ارتباك غائم: إزيك؟، حاولت أن أبدو طبيعياً قدر الإمكان، كأنه يحدث يومياً، وبدا أنني نجحت في ذلك: إزيك يا جيلان...يااااه...عاش من شافك؟، "آه وإنت كمان"، "عاملة إيه وإيه أخبارك؟"،"تمام..تمام"، "مش معقول..أنا مش مصدق..عاملة إيه يا جيلان؟"،ردت في هدوء " كويسة الحمدلله"  فكرتُ أنها بعد لم تدرك أنني أحاول الوثب فوق تاريخنا المشترك بشياكة، بأريحية الحنين إلى الماضي بكل ما قد يعتريه من كدر، الحنين إلى "لعب العيال" مهما كان سخيفا، والذي لا يجب أن يصدر لنا الآن أي ضغائن، مقابل الاستمتاع الخفيف بكوننا تخطيناه، نحن الناضجان اللذان التقيا صدفة، لكن مع الوقت بدأت أدرك أنها إلى اللامبالاة أقرب من الذكرى السيئة."اتغيرتي كتير..بس انبسطت جدا إني شفتك!"، "ربنا يخليك"، "إيه فين أراضيك دلوقتي وبتعملي إيه"، "مفيش...اتجوزت وبشتغل وكده"، نظرة رخوة، خاوية، في عينيها البنيتين الواسعتين شوّشتني، كان الرفض أو الرد المقتضب أكثر طبيعية من هذه اللامبالاة البيضاء وهذا الرد المتراخ، كنت أتوقع ردة فعل مختلفة تماما، "طيب إيه؟..أنا لازم أعزمك على حاجة مش حينفع" "لا لا ملوش لزوم" "لا يا جيلان مينفعش..طب بصي ممكن أعزمك على شاي بسرعة من هنا.." تحركتُ بسرعة قبل أن ترفض.


2

كنتُ واقفاً في شارع التحرير انتظرها أمام السينما، ثم رأيتها قادمة من بعيد، كما كانت على الدوام، مبهجة وأنيقة الألوان، بابتسامتها الجانبية الخفيفة وشعرها الأسود الحرّ القصير المتراقص مع كل خطوة على جانبي رأسها، إلا إنني تجهمّت، وكانت تفهم لماذا، جلسنا في السينما صامتين طوال مدة الفيلم، وحين خرجنا، قررت أن أفعل ما كان علي فعله من فترة، أخبرتها بوضوح أنني غير راض عن تصرفاتها، ولا عن صداقاتها الواسعة بزملاء في الكلية، ولا عن طريقتها في اللبس، ولا طريقتها في التعامل مع الآخرين عموماً، لم تكن هذه المرة الأولى التي أعلق فيها على مثل هذه الأشياء، ولكنها كانت أكثرها حدة وتهديداً، انفعلت هي الأخرى، احتد كل منا على الآخر، فقررتْ أن تنهي الأمر وهي تردد أنها ملت وأنها ليست عجينة صلصال جديدة أشكلها كيفما أشاء وأنها وأنها، ثم أوقفت تاكسي في عصبية ورحلت.
بعدها ذهبت إليها في الكلية، دون ميعاد، كانت تقف مع زملائها، ناديتها، أتت وسألتني بحدة:نعم؟، لم يعجبني الأمر، اشتبكنا من جديد، انزعج أحد زملائها، واقترب، في اللحظة التي كنت أخبرها فيها: إن اللي بتعمله ميلزمنيش، فردت: وأنا كمان، حاول الزميل الاستفهام، لم يعجبني تدخله، دافعتْ عنه، فاستخففتُ أكثر به وبها، استخفّ بي، فاشتبكتُ معه، وتطور الاشتباك إلى عركة كبيرة بيني وبين زملائها حضر على إثرها أمن الجامعة ثم غادرتُ.كانت هذه هي المرة الأخيرة، منذ أكثر من ثمانية سنوات، هل لا تزال  "جيلان" تستعيدها بنفس حضور الذكرى واكتمالها في ذهني؟، لفترة طويلة بعدها كنت كلما تذكرت "جيلان" شعرت بغصة في حلقي من هذه النهاية السخيفة، المخجلة، لقصتنا معا، لقصة تخصني أنا تحديداً مضطر أن أتعامل معها كتاريخ شخصي تمّ ولا سبيل إلى تغييره، ولفترة أطول، ظلت "جيلان" في خلفية ذهني كلما دخلت في علاقة أو خرجت منها، أتذكرها بمزيج من الغضب والحنق والكراهية والحنين، أتخيلها ترى انتصاراتي المتكررة والمعلنة فتشعر بالندم أو الحسرة أنها سمحت لنفسها أن تفقدني.
"على فكرة، أنا شفت بروفايلك على فيسبوك ومصدقتش"، قلتُ بينما نرتكز على سور أحد الأدوار ممسكين بكوبي شاي ورقيين، كانت قد رفضت أن نجلس في الكافيه وفضلت أمام إلحاحي الشديد أن نشربه معا واقفين أمامه بالخارج، "بس عرفتك وشفت صورتك مع ابنك ماشاء الله"، "زياد..بقى أكبر من الصورة دلوقتي"، "فعلاً؟"،"آه..أصلي مبدخلش الفيس كتير"، انتظرتُ دورها، أن تخبرني أنها رأتني في أي مكان، لكنها اكتفت باحتساء الشاي وهي تحدق بعيدا في شرود، "الثورة خلت كل الناس تخش ع الفيسبوك..حزعل أوي لو طلعتي فلول يا جيلان؟" "تفتكر إني ممكن أبقى كده؟" تجمدت ودق قلبي بعنف، كانت قد قالتها وهي تنظر إلي نفس النظرة القديمة، حين تعرف أنني أقول أي كلام، وفي الإشارة الخفية إلى: أنت تعرفني جيداً بلاش عبط.
استعدت توازني "مين عارف بقى..ناس كتير فوجئت إنهم بقوا فلول!"، "بس أكيد مش أنا"..كنت في إشارتي إلى الثورة أنتظر ردوداً أخرى، "أنا آسفة مضطرة أتحرك.." "آه أوك يلا بينا أوصلك لحد تحت" " لا مفيش داعي..ميرسي جداً على الشاي" "العفو يا جيلان..خليني أوصلك"، كنت ألح على نحو ضاغط، لأنني لم أحصل بعد على ما أنتظره، ولأن انتهاء الأمر على هذا النحو، يزيد الحساب المفتوح ثقلاً، يزيده عمقاً في ذاكرتي، وفي نفس الوقت يسحبه من جديد  إلى السطح وهو ما لا يجب أن أقبله على الإطلاق.


3

"مش مستغربة إنك شفتيني في المول؟" كنا نازلين على السلم الكهربي،"مش فاهمة؟"، ذاهلة عني في أضواء الفاترينات الكثيفة، "يعني..كنت دايماً بقول إني مش بتاع مولات ونوادي والمجتمعات الاستهلاكية دي" ابتسمت نصف ابتسامة وهي تنظر لي بطرف عينها "آه.."، كان ما يحدث فوق احتمالي، أن أتشبث هكذا في الفراغ أمام واحدة مثل "جيلان" لأثبت لها أي شيء، بعد كل ما أنجزته وكل ماحدث لي، هذه البلهاء التافهة الضحلة قليلة الثقافة، التي يناسبها جداً أن تكون خارج دائرة الوعي، لا تدخل على فيسبوك، وأخر ما تفعله على الإنترنت هو التجوّل في مجموعات الطبخ والإكسسوار، حسابها الكابي على فيسبوك كان كفيلاً بتأكيد أنها كما كانت لاتزال، بصورتها واقفة في صالة منزلية تقليدية، أثاث ثقيل خشبي داكن، وابتسامة بلهاء واسعة، وطفل يشبهها، وزوج من المحتمل أنه في نفس مساحتها الضيقة من الحياة، محاسب متوسط ربما في شركة ما، حزب كنبة، جلسا جنباً إلى جنب يولولان أيام الثورة على الأمن والاستقرار، أيّدا بقاء مبارك عدة أشهر، وابتلعا أكاذيب المؤامرة الإخوانية والإيرانية على مصر، هذا هو المتوقع، كما كانت على الدوام محبطة بالنسبة لي ، بلا أي ثقافة حقيقية، رأيها يشابه رأي أي فتاة في مثل سنها في الطريق، صدمني هذا في بداية علاقتنا، أنا القارئ الخبير والمتابع النهم للسينما، حين أشبهها بإحدى أيقوناتي الهوليودية، فتتساءل عن الإسم باستغراب، أن تصر على بقاء نغمة أنا ليك لـ "سامو زين" على موبايلها، نعم كان ملائما جداً لـ"جيلان" أنها لا تفتح الفيسبوك رغم صعوبة تخيل أن أحدا لا يفعل هذه الأيام، لكنها دون شك تشاهد التلفاز أو يشتري زوجها الصحف، من المؤكد أنها لاحظت ما حدث لي، "جيلان" ليست أجمل من عرفتهن، ليست أذكاهن، لكن كان لها جاذبية ما أعرفها جيداً، أختبر ما يشبه ذكراها الآن على نحو غائم، "جيلان" لا يمكن بحال مقارنتها بـ "نيللي"، مقارنة مماثلة إهانة حقيقية لـ"نيللي"، التي سيناسبني كثيراً أن أحكي لها ما حدث اليوم في سياق "الماضي يعود محملاً بالغرابة"، وصلنا إلى بوابة المول، أراحتني قليلا خواطري السابقة، قطع انتقامي الذهني رنة موبايلها: حسين الجسمي "ربنا ربنا يا وليّ النعم"، موبايل نوكيا وردي بحلية دبدوب فضي مدلاة، ابتسمتُ عميقاً داخلي، دفعتُ لها باب المول.


4

خلال الثمانية عشرة يوماً للثورة، اشتهرتُ بفيديو خطبة قصيرة  ألقيتها ارتجالاً فوق منصة هارديز بعد خطاب "مبارك" الأول، أصرخ فيها أننا لن نغادر هذا الميدان إلا منتصرين أو جثثا، صورها أحدهم بجودة عالية، ورفعها على الإنترنت، لتنتشر بعد معركة الجمل في اليوم التالي كالعدوى على فيسبوك، كأحد الفيديوهات الأيقونية للثورة، انتشر تحت اسم "اسمعوا ثوار التحرير" و"خطبة أحد أبطال الميدان"..إلخ، وبعد التنحي استضافني يسري فودة بسبب الفيديو في إحدى حلقاته، خاصة مع ظهور صورة لي مصاباً في المستشفى الميداني، وبعدها مع إبراهيم عيسى، الذي عرض علي كتابة عمود إسبوعي في جريدة "التحرير" تظهر على رأسه صورة أنيقة لي، اشتركت مع أحد أصدقاء الميدان في كتابة كتاب عن ذكريات أيام الثورة وحقق مبيعات عالية، ظهرت في عدة برامج حوارية، انتشرت عدة مقاطع لي وأنا أرد على كادر إخواني أو محلل استراتيجي أو أحد مسئولي الدولة، واعترف أنني كثيراً ما كنت أفكر وأنا أشاهد نفسي على الشاشة أو جالساً في كواليس برنامج ما أو أقرأ مقالتي أو خبرا عني في الصحف أن "جيلان"، ضمن آخرين، قد رأتني أو ستراني، أتخيلها تتأملني على الشاشة  وتفكر أنها تركت هذا والآن هي عالقة للأبد مع أيا كان الذي يجلس جوارها على الكنبة،كان شعوراً خفياً بالانتصار، لم يعد فيه لدي أي شك، مع تصاعد شهرتي وتردد اسمي من حين لآخر، أن "جيلان" على نحو أكيد رأتني.
"أتمنى متكونيش لسه متضايقة من اللي حصل زمان" قلت بينما نخطو في المساحة الكبيرة الواسعة أمام المول، كانت شاردة أمامها في صمت، "لا أبداً..ليه بتقول كده؟" "مفيش حاسك متضايقة شوية" " لا لا أبداً..طنط عاملة إيه"، رغم أن سؤالها بدا روتينياً، لكن ابتهجت لتذكرها صداقة العائلتين  القديمة،"كويسة الحمد لله وطنط؟" " الحمد لله تمام"، "رحتي التحرير؟" ابتسمتْ "لا مكنش ينفع أنا ساكنة في التجمع وزياد.." "أها" "مصر اتغيرت بعد الثورة كتير جداً" "آه..شفتك مرة على التلفزيون" "بجد؟!..إمتى" "مش فاكرة..كنت في مكان فيه تلفزيون غالبا عيادة دكتور زياد"، "ممممم..كان برنامج إيه" "مش فاكرة"، ابتسمتُ "طيب كنت بقول إيه طيب؟" ابتسمتْ "مكنتش مركزة أو كانوا قافلين الصوت" "أها"..وصلنا إلى الشارع، "أنا بس مستغرب من حاجة يا جيلان..إنتي مسألتنيش عن أي حاجة عني، بعمل إيه وفين.." قلتها مبتسماً، هزت كتفيها وابتسمت على نحو خافت كأنها لا تجد ما تقوله،"مفيش.. يعني..أتمنى تكون كويس.. "، "ربنا يخليكِ يا جيلان" "أنا مضطرة أمشي آسفة، فرصة سعيدة جداً، مع السلامة"، "أنا أسعد يا جيلان." تركتني "جيلان" ومضت مبتعدة بخطوات بطيئة متراخية، وقفت مكاني أتأملها، أكبح نفسي من البكاء بصعوبة.
     


Friday, May 13, 2011

مارتينا


1

رفع "مينا" الصوت إلى الحد الأقصى, وحين تأكد أن السمّاعتين قد عزلتاه تماماً, أراح الموبايل على فخذه ثم أراح رأسه على المسند منتظراً اكتمال حمولة التويوتا أكتوبر_ مؤسسة.
سماع الأغاني من ذاكرة الموبايل لم تكن هواية مينا المفضلة في رحلات الميكروباص الطويلة, دائماً ما كان يخشى أن يحادثه أحدٌ فلا يسمعه, هناك عقدة ما لدى "مينا", أنه يجب أن يكون حاضراً في اللحظة, لأسباب معقّدة, منها ما هو في المستوى التحتيّ من وعيه, قلقه من صورة الشاب ذي السمّاعتين في أذنه, اللامبالي, وهي صورة مشوّشة في ذهنه كونها غير مشوبة أخلاقياً, لكنها شائعة بشكل سلبي ما لأن تدفعه إلى محاولة تجنبها. لكن على ما يبدو ليس اليوم, خاصة بعد أن بدأت "مارتينا" _ابنة خالته_ تلتفت لوجوده النحيل, ممرّرة إليه إشارة خفيّة بأنها قررت أن تلاحظ اهتمامه, بعد تعالٍ طويل سابق, لذلك قرر "مينا" أن يقضي المسافة كاملة من أكتوبر إلى شبرا, يسمع "ليدي جاجا", التي رشحتها له "مارتينا" نفسها, أعاد تثبيت السماعتين في أذنيه جيداً, عدّل وضع النظارة الطبية بسبابته, أغمض عينيه ثم عقد ساعديه أمام صدره, بينما كان أحدهم يستقرّ إلى جواره بفظاظة, فارتطم كتفه بكتف "مينا". "مينا" اعتاد منذ زمن على جلافة أصلية في الأداء الحركي لكثيرين, أو من اكتشف مع مرور الوقت أنهم ليسوا استثناءً: الذين لا يقدّرون كثيراً مسألة المساحة الشخصية للجسد, لكنه لم يهتمّ على كل حال, حتى بعد أن ظلت همهمة الرجل تتصاعد, تململ "مينا" محاولاً تجاهل الأصوات الخافتة المتناهية إلى أذنيه تحت صراخ ليدي جاجا العنيف, لم يتوقف جاره عن الفرك, والهمهمة و التماسّ بكتفه ثم التباعد, فعمّق "مينا" في ذهنه رغبته في الاندماج, بتخيل "مارتينا" ترقص على الإيقاع الدائري للأغنية, كان المشهد فاتناً, دفعه إلى تخيل ذاته يشارك "مارتينا" الرقص بشعرها الطويل المنسدل, لكنه بدأ يفكّر خلال المشهد: هو بجسده النحيل و نظارته الطبية و ملامحه المنمنة أمام مارتينا ناضجة الجسد و الحسن, فأوجعه أن يتفهّم لأول مرة على نحو واعٍ, على نحو مرئي كامل, منطق "مارتينا" السليم في تجاهل اهتمامه, شعر "مينا" بمياه دافئة كثيرة تندفق على وجهه و ذراعيه, فتح "مينا" عينيه, فرأى على زجاج نظارته الطبية سائلاً أحمر, نظر إلى جواره, كان جاره في الميكروباص مذبوحاً, و آخر يقف خارج الميكروباص بمدية في وضع أفقي, بينما يتأمله من الخلفية خلقٌ كثيرون بأحداق متسعة و أفواه مفتوحة, بلا أصوات, "جاجا" فقط تكرر: آي وونت يور باد...باد رومانس..



2

حين نزل "مينا" من الميكروباص ملطخا بالدمّ, عرف من حكي الركاب, لآخرين كثيرين, أن أحدهم كان يصرخ مع جاره في الميكروباص, كان يطلب منه أن ينزل, لكن الأخير رفض, ألحّ الأول وطلب منه أن ينزل ليتفاهما, فرفض جاره واشتبكا في سباب عنيف, فأخرج الأول مديته و أنهى الأمر, و لم يكن كل هذا مشكلة "مينا" في المقام الأول, بل كيف سيرجع إلى البيت بملابسه الملطخة بالدماء على هذا النحو, شاعراً بأسىً حقيقي على التي _شيرت الموباكو الأبيض المفضل لديه. وقف "مينا" ذاهلاً للحظات, عاجزاً عن التفكير, انطلق الميكروباص بالمجني عليه في محاولة لإنقاذه في أي مستشفى, بينما سحب آخرون الجاني إلى حيث لم يهتمّ "مينا", لم يعرف "مينا" كيف يتصرّف, الموقَف انقلب رأساً على عقب, ثم عاد كل شيء مرة أخرى إلى هدوءه, إلا من واحد أو اثنين يتحدثان في الموضوع, أقصى تعاطف حصل عليه "مينا" كان منديلاً من راكب ليمسح به وجهه و نظارته, احتاج بعده منديلين آخرين, طلبهما بنفسه.

قرر "مينا" أن عودته بهذا الدم على صدره خطر كبير, خاصة في مثل هذه الظروف التي تمر بها البلد, لذلك توجه مباشرة إلى أقرب نقطة للجيش, الدبابة الرابضة بالقرب من مسجد "الحصري", سار إليها بهدوء وهو يعدّ الكلمات المناسبة لشرح الأمر, وعلى مسافة عشرين متراً, أول ما لمحه عسكري الورديّة أمام الدبابة, تشنّج الجندي و سدد إليه بندقيته وهو يصرخ: مكانك..اثبت مكانك, ثبت "مينا" مكانه, رفع يده محاولاً أن يشير للجندي أن يهدأ, فصرخ الجندي: إيدك جنبك.., وثب ملازم أول من وراء الدبابة, ملقيا سيجارته بعيدا و مسدداً مسدسه الميري وهو يصرخ في صرامة: اثبت محلك..ارقد مكانك, أطاع "مينا" الأمر, تمدد بطوله على الأرض, أراح خده بهدوء على الأسفلت البارد في استكانة كاملة, وهو يفكر أنه من الأفضل ألا يتفوّه بأي شيء إلا بعد أن يقترب منه أحد, ثوان طويلة مرّت قبل أن يرى مينا بيادة الجندي مباشرة أمام عينيه, ويسمع الضابط : "عمل إيه الواد ده؟", "كان جاي ناحيتي يا فندم و هدومه كلها دم", "قوّمه", شده الجندي من ياقته بعنف, فنهض, "إيه الدم ده ياض", رفع "مينا" عينيه من وراء النظارة الطبية إلى الملازم, ثم خرج صوته من حلقه بصعوبة: "واحد ضرب الراجل اللي جنبي في الميكروباص بالمطوة في رقبته, هناك." ثم أشار تجاه الموقَف, تأمله الملازم للحظات, ثم سحبه الجندي وراء الملازم في اتجاه الموقف, وهناك سمع الملازم القصة كاملةً, واستفسر عن موقف "مينا", فهزّ الجميع رؤوسهم بعدم معرفتهم لأي شيء بخصوصه, لم يكن هناك شاهدا واحداً متبقياً, لكن الملازم بعد أن رأي بطاقته الشخصية, المكتوب فيها: طالب, قرر أن يخلي سبيله, آمراً "مينا" بلهجة حازمة, مشيراً تجاه المحوَر: يلا..إمشي من هنا.



3

في الميكروباص, وبعد حوالي 10 دقائق من الانطلاق على المحور, انفجر "مينا" في البكاء, بكاء خفيض دون صوت, كان وحيداً في الكنبة الخلفية, فلم يلاحظه أحد, خاصة حين تذكر "مارتينا", وتخيلها تربّت عليها في شفقة حيال سماعها ما حدث, اتصل "مينا" بأخيه, حكى له ما حدث, فطلب منه أخيه أن يعود إلى بيت الخالة و يقضي الليلة هناك, كي لا يتعرض للخطر, كان "مينا" يعرف أن اللجان الشعبية لا تزال تقف في "شبرا", لكن احتمال عودته إلى خالته _ ومارتينا_ بهذا الشكل كانت منعدمة, نزل "مينا" في "غمرة", ثم ركب إلى "شبرا", نزل على بعد خمسة أو ستة شوارع من منزله, سار قليلاً, على ناصية أحد الشوارع لمح الواقفين وراء متاريس حجرية صغيرة, اقترب من اللجنة الشعبية الساهرة, كان قد رتّب الحوار في ذهنه جيداً, توقف "مينا" للتفتيش تلقائياً, سمع أحدهم يصيح: "قابل يا كالابالا", اقترب منه "كالابالا" _ أوائل الثلاثينيات ضخم الجثة_وقال بصوت خشن وهو يشير إلى صدره دون مقدمات: "إيه الدم ده؟", ارتبك "مينا", تجمعت اللجنة كلها أمامه, ثم بدأ يحكي, "أصل واحد كان جنبي في الميكروباص واحد جه و ضربه بمطواة في رقبته فالدم جه عليا", ردّ كالابالا وهو مندمج في تحسس جيوبه نازلاً إلى تحسس ساقيه: لا ياشيخ.., اقترب رجل أربعيني بلحية صغيرة: "فين بطاقتك يابني؟", أخرج مينا محفظته, فسحبها منه "كالابالا" بعنف, أخرج منها البطاقة, نظر فيها ثم سلمها للأربعيني بينما يردد على نحو موقّع مسددا نظرة جامدة إلى "مينا" :" مينا.. فهمي.. غبريال". كانوا ستة أو سبعة, كالابالا و الأربعيني و أربعة شباب في مثل عمر "مينا" يمسكون بأنماط متعددة من الأخشاب و الحدائد متفاوتة الطول,التفوا حوله يقلبون النظر في التي شيرت, أحدهم مدّ يده و رفع التي شيرت إليه ليراه جيّداً, دون أن يلتفت إلى أنه يكشف بطن "مينا" بشكل كامل, انزعج ميناً تماماً من حركةٍ كهذه, لكنه كان في وضعٍ يستلزم انصياع كامل للرغبات الشعبية, فجأة, وقبل أن ينتهي الأربعيني _ مأمور اللجنة الشعبية_ من فحص هوية "مينا", صرخ "كالابالا": يا نهار أبوك إسود. "كالابالا" كان يرفع صورة 4 x 6, لفتاة محجبة, أخرجها للتو من محفظة "مينا","شايل صورة البتّ دي معاك ليه يلا.", بصوت مذعور :"دي نجوان, زميلتي في الكلية و صاحبتي من أيام ثانوي والله", "وشايل صورتها ليه", "هي اللي إديتهاني وأنا كمان إديتها صورتي", "ليه إن شاء الله؟", "عادي والله مفيش حاجة يا كباتن", أدار "مينا" بصره بابتسامة مترددة في أعضاء اللجنة الذين كانوا يبادلونه نظرة قاسية, "ده إنت نهار أمّك مش فايت" , هتف "كالابالا", ثم قرر الأربعيني أخيراً ان يتحدث: "حطّوه جوا في الحوش دلوقتي لحد ما نشوف حنعمل فيه إيه", "ليه بس كده يا حاج أنا ساكن في شارع "عبده نصحي" بعدكم من هنا و والله ده اللي حصل", أعاد الحاجّ تأمله مرة أخرى, دبّ الأمل في قلب "مينا", توسّم خيراً في الحاجّ, الذي هزّ رأسه بحكمة, ثم أشار إلى الشاب, "خدوه جوا في الحوش", قيّده الشباب بحماس, فاستسلم "مينا", قادوه إلى مدخل بناية قريبة, وهناك, أجلسوه و ربطوه في الباب الحديدي للبناية, وجلس بجواره واحد منهم يحدّق فيه على نحو ثابت, و من مكانه, كان "مينا" يرى عبر فتحات البوابة اللجنة وهي تعود لروتينها الطبيعي, كالابالا في المقدمة, الحاجّ مع الشباب بالخلف.



4

دائماً ما كان يشعر "مينا" أنه ليس جديراً بـ"مارتينا", حتى لو قررت أن تهتم به, هو بشكل أصلي ليس جديراً بها, "مارتينا" يليق بها رجل شجاع, رجل صلب حاضر الذهن, ليس لديه ما يقلقه من الآخرين أو يهزّ نبرة صوته في مواجهة أي أحد, على نحو ما حدث منذ قليل, موقفه كان مخنثاً تماماً مع اللجنة الشعبية, لم لم يرفع صوته و يثبت عينيه بقوة في عيني كالابالا وهو يخبره أنها فعلا مجرد صديقة وأنه ليس من حقه تفتيش محفظته ولا من حق الشباب تعرية بطنه ولا فحص التيشيرت, موقفا كهذا كان ربما يقنعهم أنه فعلاً ليس لصاً أو مشتبهاً فيه, أنه فقط شخص تعرض لسوء حظّ مفرط, لكنه كالعادة انكمش وخرج صوته رفيعاً مبحوحاً يطلب الرحمة, ماذا لو رأته "مارتينا" مقيّداً كالخروف إلى حديد باب البناية, كونها لم تره, لا ينفي أنه قد حدث بالفعل, وأنه بات يشكل جزءا من تاريخه الشخصي إلى الأبد, مما لا يسمح له أبداً أن يكون جديراً بواحدة مثل "مارتينا", سمع "مينا" جلبة بالخارج, رفع رأسه ليرى من وراء حديد البوابة, دورية شرطة على أول الشارع , يتبادل قائدها مع "كالابالا" حديثا ما, التفت بعده كالابالا و أشار في تجاه الشاب المكلّف بحراسة "مينا" فنهض وتحرك إلى الخارج, لم يكن ما مرّ بخاطر "مينا" ساعتها مجرد هاجس سيء, فقد عاد الشاب بصحبة كالابالا و الشباب وفكّوه ثم اصطحبوه إلى الدورية مقيد اليدين, في سيارة الدورية كان هناك ضابط وثلاثة أمناء شرطة, أحدهم على مقعد القيادة جواره الضابط, وأميني شرطة بالخلف, جميعهم كانوا ينظرون إليه باستغراب, قال "كالابالا": هوّ ده.., فأشار الضابط: هاتوه, نزل أحد الأمناء من الخلف و دفعه في السياره ثم ركب ليحصره بينه و بين زميله على الكنبة الخلفية, لوّح الضابط لكالابالا و الشباب بابتسامة واسعة ودودة: حنعدي عليكم تاني..لو فيه حاجة بلغونا على طول.. ربنا يخليكم لمصر يا شباب..ربنا يخليكم لمصر..



5

فتح الملازم أول المحفظة, وأخرج منها بطاقة مينا, ثم صورة "نجوان", هزّ الملازم رأسه ثم التفت إلى "مينا" بالخلف وغمز وهو يقول: فورتيكا صحّ.., لم يعرف "مينا" كيف يردّ, أو إن كان من المفروض أن يردّ, عرض الملازم الصورة على الأمين قائد السيارة الذي اختلس إليها نظرة نهمة, ثم عاد ببصره إلى الطريق, ثم دارت الصورة على الأمينين بالخلف, سأله الملازم: مين دي ياض؟, بلع مينا ريقه, ودّ لو يعلق مبدئيا أنه ليس من حق الملازم أن يكلمه بهذه الطريقة, لكنه قرر أن يكون أكثر حكمة, "دي واحدة صاحبتي من أيام ثانوي", "وإيه الدم اللى على هدومك ده؟" قالها الملازم وهو يواصل تفتيش المحفظة, تمنى "مينا" من أعماق قلبه ألا يحدث ما يخشاه, لكن الملازم فعليا كان قد وجد صورة مارتينا, صورة صغيرة لمارتينا بالحجم الكامل, رفعها الملازم أمامه ليراها جيداً وهو يقول بحماس: أوففففففف..., التفت الأمين قائد السيارة ليلقي نظرة بينما اعتدل الأمينين بالخلف في فضول, تمالك "مينا" نفسه قدر الإمكان, ظل صامتاً يحاول ترجيح كل الاحتمالات, لكن الملازم ردد وهو يتأمل الصورة و يعض شفته السفلى: وتكة..المسيحيات برضه حاجة تانية يا معلم. لم يكن هناك المزيد من الصبر لدى "مينا" إزاء ضغط كهذا, " مش من حقك إنك تشوف صوري الشخصية...إنتوا واخدنّي على فين ؟ " التفت إليه الضابط مبتسماً: إيه ده...دا إنت بتتكلم ؟, انفجر الأمناء في الضحك, "لا ياحبيبي..من حقي أفتّشك و أشوف صورك وصور مززك و أرميك في الحبس كمان لو تحب..ده قبل ما نشوف الدم اللي على صدرك ده قصته إيه..فين موبايل الواد ده", تناول الضابط موبايل مينا, فتحه و بدأ التقليب في الصور, كان صوت تنفس مينا عالياً, كان يحاول أن يهدأ ليرى نهاية للكابوس الليلي الطويل الذي يعيشه, أشعل الضابط سيجارة وهو يتفحص الموبايل بتركيز, تحدث الأمناء قليلاً عن ميعاد انتهاء الدورية, "طيب لو سمحتوا أكلّم أهلي", لم يردّ أحد, فجأة هز الضابط رأسه ثم نظر إلى "مينا": "آآآه... إنت من شباب التحرير بقى ...و متصوّر لي جنب الدبابةكمان" ضحك الملازم ضحكة صغيرة في تهكم, نفث الضابط دخان سيجارته ثم قال: عايزك تعرف إنك إنت و كل عـ*ص مدّ إيده على سيده إن حسابكم معانا تقيل.., لم يفهم "مينا", أو لم يستوعب موقف الضابط, فكّر أن يخبر الضابط شيئا من قبيل أنه لم يكن مع الذين أحرقوا الأقسام, أو بشكل أكثر عمومية أن شباب التحرير كانوا سلميين, لكن الضابط واصل : "إنتوا من غيرنا حتولولوا..قال لجان شعبية و خرا..دا إنتوا حيطلع دين أبوكم ..إنتوا لسه شوفتوا حاجة", اقتربت الدورية من نهاية الشارع الرئيسي, "إلحق يا باشا" قال قائد السيارة, انتبه الضابط, "فيه لجنة على أول الشارع", اعتدل الضابط, بدا لـ"مينا" أن اللجنة الشعبية في مكان غير اعتيادي, أو مفاجئ للدورية, توقفت الدورية أمام اللجنة المكونة من عشرة أفراد يحملون أسلحة بيضاء, ذوي ملامح إجرامية أصيلة, "رخصك يا أسطى", قالها أحد أفراد اللجنة بابتسامة خفيفة, بينما يبتسم بقية أعضاء اللجنة في الخلف في تشفٍ واضح, ابتسم له أمين الشرطة كأنه قد قَبِل المزحة ثم قال: عاش يا رجالة..ربنا معاكم, "لا ياخفيف..لا عاش ولا مات..رخصك", بدا أن اللجنة ليس لديها نية لتبادل أجواء ودّية ليلية مع الشرطة أو لا تتضمن قناعاتهم بعد أن "الشرطة و الشعب..إيد واحدة", نظر الأمين إلى الضابط, الذي مال على الأمين جواره ليرى عضو اللجنة ذي السيف ثم قال: يا كابتن خلاص..إحنا هنا بنأمّن الدنيا معاكم..ملوش لازمة يعني الكلام ده. قلب عضو اللجنة شفّته ومال ليرى الضابط: لا يا نجم..إحنا حنشوف كارنيهاتكم واحد واحد و رخصة العربية و حتنزلوا و حنفتشها كمان, نزل الملازم بغضب, ثم توجه إلى الشاب وهو يصيح: "يعني إيه مش فاهم..إنتوا واقفين هنا بتعملوا إيه..ده شارع عمومي..إنتـ..", من زجاج الدورية الأمامي, رأي "مينا" المشهد على نحو بانورامي, عضو اللجنة يقترب بشكل متزامن من تحرك الضابط نحوه, يصطدم به بصدره, الضابط يفتح عينيه على اتساعهما, يحاول أن يدفع العضو بعيدا عنه, فيهجم الشباب من الخلفية..



6

رأى "مينا" المعركة كاملةً من زجاج السيارة الأمامي, كان هناك مجموعة يسحلون الضابط, التفوا حوله في البداية, أمسك أحدهم بحزام بنطاله الميري الأبيض الناصع, وآخر من ياقته الميري المزيّنة بالدبوس الذهبي بينما رفعه أحدهم من الخلف من حِجر البنطلون إلى الوراء, تأرجح قليلا في الهواء بنظرة مذعورة, ثم بدأت الحفلة, كل أمين شرطة كان يسحل من اثنين على حدة, لم يلاحظ أحداً وجود كائن نحيل في السيارة يحدق في المعركة بذهول, ولا يعرف"مينا" لمَ لم ينزل ويجري في أي اتجاه, مرّ بذهنه لوهلة أن يفتّش عن محفظته و موبايله في السيارة, لكن قبل أن يبدأ فعلياً في أي حركة, كان قد وصل إلى السيارة شابين بدءا يدفعانها من الجانب بعنف, فهم "مينا" من مشاهداته أثناء الثورة أنهم يريدان قلبها, لحرقها ربما, فصرخ وهو يتحرك خارج السيارة, لمحه أحد الشابين فجرى وراءه إلى نهاية الشارع, كبّله وعاد به إلى جوار الضابط فاقد الوعي وأمناء الشرطة المقيدين متواصلي الولولة, حاول "مينا" أن يوضّح موقفه بشتى السبل: "يا كباتن والله أنا مش معاهم", لكن عضو اللجنة كان متحمساً لحرق السيارة على نحو جارف, ربطه جوارهم, ثم عاد إلى زملائه حول الدورية, قلبوها, ثم أشعلوا فيها النار..

في الفجر, حينما وقف أمام "مينا" ضابط الشرطة العسكرية, لم يكن هناك أي من أعضاء اللجنة الشعبية, غادروا بعد حفلة الشواء الميري, فقط كانت تلوح له من بعيد سيارة الدورية متفحّمة و يتصاعد منها الدخان, بينما يجلس مقيّداً إلى جوار الملازم والأمناء على الأسفلت, سأله الضابط عما حدث,فلم يعرف "مينا" من أين يبدأ تحديداً, سأله الضابط مرة أخرى بعنف : إنت مين يالا. فقط نظر إليه "مينا" ثم قال بصوت مبحوح: أنا مينا..



7

هل يجب أن يحكي "مينا" لمارتينا عما حدث ؟, لا, لايجب على "مينا" أن يحكي لمارتينا أي شيء, كل ما حدث لا يمثّل أي شيء, لا يشكّل أي معنى أو عبرة أخيرة, ماحدث لم يكن خطأه, ولا خطأ الثورة, ولا خطأ اللجان الشعبية, ولا بالضرورة خطأ الشرطة, ولا الجيش بالطبع, لا خطأ المسلمين, ولا خطأ كونه مسيحياً, ستسأله "مارتينا" ربما عما حدث, لأن أمه بالضرورة ستكون قد حكت لأختها طرفاً من القصة, وسيكتفي "مينا" بأن يخبرها أن ضابط الشرطة أصرّ أن يرى صورتها, فرفض, ستبتسم له "مارتينا", وسيكتفي "مينا" بذلك على العموم..

Thursday, October 21, 2010

هوندا سيفيك





1


نزل من سيارته, الهوندا سيفيك, و مشى بضعة أمتار, فتبين له السبب, ميني باص أجرة يعطلّ الطريق بالكامل دون تبرير واضح, تاركا مساحة ضئيلة لعبور سيارة واحدة من جواره و ببطء, قبل أن يصل إلى الميني باص كان أحدهم _ رجل أربعيني_ قد نزل من سيارته واشتبك بالفعل مع سائق الميني باص : شاب في العشرينيات برأس بيضاوي مائل للطول و ملامح إجرامية مثالية, عينان ضيقتان مسحوبتان و حاجبان كثان على أنف طويل ضخم, كان الأربعيني يلوّح للسائق بغضب هائل بينما يكتفي السائق بالتطلع له من كابينة الميني باص بلامبالاة حقيقية, يرد عليه بكلمة أو كلمتين ثم يشيح عنه إلى الناحية الأخرى, تجمع عدة أفراد جوار كابينة الميني باص يحاولون الفضّ و إقناع السائق بالتحرك, تذرع الأخير بجمع الركاب الذين كانوا يتتابعون بالفعل إلى الداخل, فتح الأربعيني باب الميني باص بعصبية فجاوبه السائق بدفع الباب بقوة و النزول إليه, كان قد وصل منذ فترة و مكث على مسافة يتابع الموقف الذي بدأ يتعقد بشكل واضح, اشتباك بالأيدي بدا على وشك الحدوث رغم جمهرة المخلصاتية, قرر أن يتمهل قليلا هذه المرة قبل أن يخلص إلى فريسته, لذلك أخرج من جيبه بهدوء علبة سجائره, سحب سيجارة واحدة, علقها في فمه ثم أشعلها في هدوء, مائلا بدماغه كلها إلى الولاعة التي حمى لهبها الخافت بكفه اليسرى, اختبر جودة الإشعال بنفس طويل, ثم زفر الدخان من فمه عبر ابتسامة صغيرة و سار في اتجاه الميني باص..
كان يعرف , بل واثقا في الحقيقة, أن هيئته ستتيح له المرور بسهولة إلى قلب المشاجرة, برأسه قصير الشعر المصفف بعناية بحيث يتدرج بحدة من الجانبين وصولا إلى قمة رأسه, مارينز ستايل, نظارة بوليس سوداء كبيرة و قميص أبيض مخطط بالأسود, يخرج منه ذراعين ممتلئي الزند في صلابة و تماسك, مرّ إلى قلب المشاجرة و بحركة استعراضية تماما, قبض على ذراع السائق المشعرة المعروقة و أزاحها بعنف عن تلابيب الأربعيني, كان ذلك كافيا ليلتفت له الجميع.." يعني إنت بروح أمك اللي قافل الطريق.."..كانت لا تزال على وجه السائق تلك النظرة العدوانية التي كانت مسددة منذ لحظة إلى جهة أخرى,لكنها امتزجت الآن بارتباك مشوّش.." و كمان مش عاجبك إنه بيكلمك.." , لم يزد السائق رغم قلقه الواضح على أن صاح في محاولة بهيمية لاختبار شراسة الخصم: و إنت مالك إنت؟ ,و قبل أن يدرك أحد الموقف, كان قد رفع يده اليمني بحيث يراها الجميع , ثم حطّ بها كاملة, ليختم بخمسة أصابع على الصدغ بينما يستقر الكف على الأنف, كشّاف, تسمى هذه الحركة: كشّاف, منح السائق كشّافا كاملاً أمام الجميع ليترنح من هول المفاجأة قبل أي شئ ثم سقط أرضاً مؤمناً على وجهه بيسراه وعلى وجهه فزع حقيقي ..كانت هذه هي اللحظة المناسبة تماما للحركة الأخيرة في المشهد.. التي ينتظرها دائما و يعرف أنها الآن, حين يصمت الجميع في انتظاره فقط ليسوي المسألة و يتممها , تقدم و قبض بعنف على تلابيب السائق المرمي على الأرض صارخا في وجهه: أنا مالي ؟....أنا الرائد حسام الشاذلي يا ** أمك



2

طائرا على الكورنيش بالسيفيك, لمح تجمهرا صغيرا جوار تاكسي أبيض و أسود يقف بحذاء الرصيف, في المركز كان السائق يلوح بعنف في وجه شابة محتدّة هي الآخرى, ابتسم وهو يضغط على البنزين بحماس , ثم على الفرامل بكل قوته, ليتوقف بصرير هائل بالضبط وراء التاكسي, كلهم كانوا قد التفتوا إليه فعليا قبل أن ينزل برشاقة من السيفيك و يخبط بابها بعنف, ثم انتظروه ليصل إليهم دون كلمة, متوقعين أنه لابد ينتمي إلى أي من طرفي المسألة, الفتاة فقط كانت تكرر بصوت حاد: إنت سواق مش محترم , خطا إلى مركز الدائرة, البنت عشرينية محجبة بأناقة, ترتجف قليلا رغم محاولتها البقاء صلبة و على وجهها انطباع نصف مذعور , سأل السائق بهدوء : خير يا بيه؟ , السائق الذي بدا عليه أنه ليس لديه أي خيار أخر سوى سرد الوقائع كاملة, بدأ يشرح كأنه يعيد قول ما أفاض فيه مرات و مرات وهو يلوّح بعشرة جنيه ورق: الآنسة راكبة من إمبابة لحد ماسبيرو و عايزة تدفع 10 جنيه بس..ساعة سواقة في الحر و طلوع الدين و 10 جنيه..إلخ , كان هو أثناء ذلك يهزّ رأسه برتابة, يضع سيجارة في فمه و يشعلها مقربا رأسه كثيرا من الولاعة حاميا نارها الصغيرة بيسراه, يسحب نفسا تجريبيا ثم يرفع رأسه للسائق ويقول وهو ينفث الدخان في نفس الوقت : و إنت بقى مش عاجبك العشرة جنية ؟, يسكت السائق و يرتبك محاولا تخمين هوية المتطفل على معركته الصغيرة, قبل أن يفتح السائق فمه كان قد أمره بحزم: فين العشرة جنيه, فيصيح السائق في استنكار : ليه يا بيه ؟ , يصرخ فيه: بقولك هات العشرة جنيه, يناولها له السائق فيناولها بدوره للفتاة وهو يشير لها : اتفضلي حضرتك .., يحاول السائق اعتراض طريقها بجسده صائحاً تجاهه : هو فيه إيه يا عم ..تتفضل فين, الذروة, قبل أن يتحرك لمع بريقاً جائعا في عيني أحدهم بالخلف, في خلفية التجمهر, لذلك هو لا يخذل جمهوره أبدا, ألقي بالسيجارة بعيدا, شد السائق من تلابيبه و هبده على بالتاكسي في عنف, صرخ في وجهه بينما أنفيهما على وشك التلامس و السائق يحرك عينيه في وجهه بفزع : عم ؟...أنا النقيب أيمن الدبيكي يا *ول




3

تذكر ما حدث ليلتها, وهو يطير بالهوندا مخترقاً شارع قصر العيني الخاوي تماماً صباح الجمعة, كان حينها كذلك في نفس الهوندا عائداً إلى البيت عبر نفس الشارع بعد منتصف الليل, و كأنه يسترجع واحدا آخر كان يتذّكر نفسه: جسد ممتلئ مائل للترهل, وجه وديع بيضاوي, نظارة طبية أنيقة, شعر ناعم مصفف بارتجال على جنب, لا مارينز ستايل, لا عضلات, فقط تخيّلات لذيذة عما ينتظره في البيت, كان الشارع خاو تماماً كذلك إلا من ميكروباصين تويوتا يسيران جنبا إلى جنب في منتصف الطريق بتمهّل يسمح لسائقيه تبادل حديثا طويلا, لم يكن في مزاج عكر, لكنه ضغط على الكلاكس عدة مرات ليفسحا له مجالاً, لمحهما يتطلعان إليه في المرايات بسخرية, حافظا على تمهلهما لفترة, فواصل الضغط على الكلاكس بعصبية, بعد فترة فتحوا له مجالا ضيقا ليعبر بينهم, فضغط على البنزين ليمرّ, فأغلقا الممر في مهارة, ضغط على الفرامل و هو يسمع ضحكا هيسيرياً, و هكذا إلى نهاية الشارع, كانوا قد تلاعبوا به تماماً إلى حد أنه أوشك على الاصطدام بعمود نور جانبي في محاولة يائسة لتخطيهما من الجانب, انفعل و أخرج رأسه و سبّهما بعنف, أشار أحدهما إلى الآخر و غمز, فانطلق الأخير بينما ضغط الأول على الفرامل بشكل مائل مجبراً إياه على الوقوف ثم وثب من التويوتا, لم يكن هناك بد من الاشتباك, نزل من الهوندا وهو يصرخ بغضب, اقترب منه الميكروباصجي و صرخ فيه بالدور وسأله عن جهة شتائمه, لم يكن الميكروباصجي غاضباً, بدا كأنه مستلذّ تماما بما يحدث, بنصف ابتسامة و أداء استعراضيّ, و وجه أشبه بكلب بيت بول حليق, شعر بالخوف و لم يكن لديه أي خطة واضحة أو توقع لما قد يحدث, وقبل أن يعاود الصراخ, كان الميكروباصجي قد دفعه في صدره فطوّحه بعيداً, لم تكن الدفعة قوية تماماً, رغم قساوتها على عظام صدره الطرية, لكنه بعد أن تطوّح حاول الثبات و بالفعل توقف للحظة, لكنه سقط على نحو مفاجئ, تعثّرت رؤيته للحظة و اختلطت وتشوشت و سقط, تجمع واحدا أو اثنان محاولين فض المسألة, حاول أن يتماسك لينهض بينما الميكروباصجي يسبّه و يثب إلى تويوتاه و يطير, أعاده المخلصاتية إلى الهوندا, لم يكن قد عاود اتزانه بعد, فاستسلم للأيادي التي رفعته من على الأرض و قرّبته من سيارته مودّعا بعبارات تطييب الخاطر, قبل أن يتحرك بالهوندا انتظر لحظة, عدل من وضع النظارة على عينه و التقط أنفاسه, لم يكن الدم قد عاد بعد للتدفق في رأسه و عينيه بشكل طبيعي, و طوال الطريق إلى البيت كان يرتجف بعنف, يتخيل سيناريوهات أخرى محتملة, شعر بثقل في جبهته و مشاعر حلمية تماما تجاه ما حدث, و في لحظة قاسية _ بعد أن فتح باب البيت و خطا إلى غرفة النوم_حين رأي زوجته نائمة في سكينة, ضغطت الدموع ببشاعة على عينيه, كان لا يزال يرتجف وهو يندسّ إلى جوارها و يحيطها بذراعيه و يدفن رأسه بينها و بين الوسادة, فكّر أنه كان بالفعل غير قادرعن ردّ الميكروباصجي عن نفسه بأي حال, هشّا و معرضا لجميع الاحتمالات المفزعة , شعر بهلع خالص, بهشاشة حياته الهادئة, تفاهتها و ضآلتها الفعلية, بهشاشة وجوده و أسرته الصغيرة, زوجته و ابنته الرضيعة في الحجرة المجاورة, النائمتان في اطمئنان كامل, هو سببه الأوّل و الوحيد, فانتابته وحشة غير محتملة, يتذكّرها الآن كأنه يسترجع نسخةً غير كاملة مما حدث متضمنة إحساسه ذاته, نجح بمرور الوقت, عبر تكرار و معاودة التذكر دون توقف, بتمرير نسخة أخيرة, سريعة و جامدة و مبتسرة, تسمح له باستعادته ذهنياً فحسب, دون أن تنتابه نفس المشاعر بشكلها الأول, الذكرى كلها اتخذت كياناً ذهنياً منفصلاً, مختلفا بالمرة عن استعادة أي ذكرى عادية أخرى, كأنها لم تحدث, لكنها موجودة بشكل ما, لتؤدي دورها كسوط حوذيّ عكر المزاج يحرّكه في الاتجاه المناسب. انفصل عن ذاكرته ليلمح على الرصيف, بالقرب من مسرح السلام, أمين شرطة ضخم الجثة يستوقف شابا و فتاة و يدير حواراً غير ودي مع الأول, كان يعرف الأمين المشهور بتسليته اليومية في المكان باستيقاف أي شاب و فتاة يبدوان قابلين للتشكيل عليهما دون مشاكل, فيفتّش الواد و يتلذذ بإهانته أمام المزّة ملمّحاً و مصرّحاً بشكه فيهما, البنت كانت تقف على مسافة خطوتين منهما و الشاب يحاول بكل العبارات الودية و اللطيفة تفادي أي مشاكل مع الأمين الذي يتفحّص بطاقته بتمعّن و امتعاض ممهداً الطريق للخطوة التالية, شهرة الأمين كانت ذائعة في المنطقة بالفعل, لذلك كان هناك متفرجين بالقرب, من حرّاس البنايات و المخبرين المنتشرين بطول الشارع, شعر بالحظّ, فتح تابلوه الهوندا و سحب طبنجته و دسّها تحت السترة بين حزامه و جنبه, يميل بالهوندا إلى الرصيف و ينزل بمحاذاة الضبطية الاستعراضية, و قبل أن يتجه مباشرة إلى الأمين كان قد رفع صوته : إنت بتفتشه ليه يلا...التفت إليه الأمين في استنكار بالغ, وانتبه الجمهور بالخلف, أزاح طرف سترته برشاقة ليخرج علبة سجائره من جيبه فيلمح الأمين الطبنجة لامعة في مكمنها, رد عليه بحذر مشوب باستنكار خَفَت قليلا: اشتبهت فيه.., سأله بلهجة باردة وهو يميل رأسه إلى الولاعة كثيرا و يسحب عدة أنفاس صغيرة: ليه.., أمين الشرطة ينظر إلى الشاب الذي وجم تماماً ثم يجيب: شكله مبرشم..فيه حاجة يا بيه؟, يبتسم وهو ينزل السيجارة من فمه و يشير بها إليه: و إنت بقى اللي شكلك إبن ناس؟, يصمت الأمين تماماً و يحدجه بنظرة جامدة, نظرة كان يعرفها تماماً و يقيّم حجم الارتباك الذي تعنيه على الرغم من قسوتها البادية, فعلا لا شيء يفوق الخبرة, يسحب نفسا من سيجارته و يشير إلى الشاب و الفتاة أن ينصرفا, فتحركا بسرعة بعد أن ناول الأمين الشاب بطاقته, تابعهما إلى أن عبرا الشارع ثم مال إلى أمين الشرطة محدقاً في عينيه الجامدتين وهمس: لو شفت ** أمك بتفتش أي واحد في الشارع ده تاني..حنيـ*ك...هه. تجمّد وجه الأمين و توقف عن الرمش, فعاجله: أشوفك بس مرة تانية و ابقى قول المقدم علاء رمضان قال.ثم ألقى السيجارة و دهسها و أعاد الـ بوليس السوداء الكبيرةعلى عينيه ببطء. بخطوات ثقيلة محسوبة استدار و خطا إلى سيارته, فتح باب الهوندا سيفيك و وثب فيها برشاقة, لمح الأمين لازال مثبّتا في مكانه يتابعه مبتعدًا, تضاعفت في عروقه لذة هائلة وضغط على البنزين.






4

دخل البيت و نادى عليها, غنّي بمزاج عال من الباب إلى غرفة النوم, كانت حصيلة اليوم : عامل كاشير, مسح به أرضية السوبر ماركت الفخم, كان قد لمحه يعنّف إحداهن على رغبتها في إعادة عبوّة مسحوق بعد أن مررها على ماكينة الباركود, أجبره في النهاية على الاعتذار لها علنياً بعد أن كان يلوّح لها منذ دقيقة أنه مش شغال عند أبوها, جامعيّ طموح, قطف ردف زميلته بالقرب من سور الجامعة, هشم أنفه و حطم كل أوراقه الشخصية و سلمه للدورية, دخل غرفة ابنته فلم يجدها هناك, سألها عنها بصوت عالٍ فترد عليه من المطبخ: تلعب عند الجيران, يبتسم و يستلقي على فراشه بتلذذ, المتعة كلها تكتمل بعد أن يعود إلى البيت, ثم يبدأ في استرجاع الأحداث, لابد أن ذلك ما كان يفعله بات مان بعد العودة من جوثام سيتي, الاستلقاء و التذكّر, ربما يفكر في المستقبل في صنع شعار مميز له أو طريقة لاستدعائه, فيظهر من بعيد في الهوندا سيفيك, يبتسم ثم يتثاءب, أيام كثيرة كان ينزل بالفعل من البيت دون أي رغبة في الذهاب إلى العمل, فقط يدور في الشوارع بالهوندا مفتشاً عن الفرائس..
تدخل عليه فيبستم لها ابتسامة واسعة, تقفز إلى حضنه, فيضمها إليه ضاغطا على جسدها الناعم بعضلاته الصلدة, مستمتعا بالفكرة, أنه يستحق الآن كل خلية حية فيها, دون أن ترواده أي هواجس بشأن ذلك أو منغصات من أي نوع, ينسجمان في مضاجعة هادئة, يتحرك بنشاط أكثر فتضخ أنّاتها الصغيرة المزيد من الدم في عضلاته, تنتابه نشوة غامرة مخلوطة بزهو فيغيب لوهلة في ذاته, ثم ينتبه على تأوّه حقيقي متألم, كانت تطلب منه التمهّل وهي تتملص برسغيها من تحت قبضتيه المغلقتين عليهما بعنف, يخفف من ضغطه و يلاحظ بدهشة أنه كان عنيفاً فعلا وهو يرى آثار أصابعه على رسغيها, قالت بلوم وهي تفتح يديها و تغلقهما عدة مرات : كنت حتقطع لي إيدي.. أنا بقيت بخاف منك على فكرة..,يبتسم, فتؤكد له وهي تضحك : لا بجد...إنت بقيت بتفكرني بظباط الشرطة ..فوَجَم .




5

لمحه على نحو خاطف, فشعر بانقباض هائل, مال بالهوندا إلى اليمين, و نزل بسرعة, كان لا يزال هناك, أمام كشك في نفس الشارع, قصر العيني, ماداً يده بالنقود إلى البائع, توقف أمامه مباشرة, تأمل ملامحه عن قرب ليتأكد أنه هو, تأمله بعمق بينما يناوله البائع علبة سجائر و البيت بول يهمّ بالعودة إلى الميكروباص, المركون بالقرب من الكشك متسبباً في إعاقة طفيفة للشارع, لم يكن بحاجة إلى استدعاء أي كراهية إضافية, أزاح سترته لتظهر الطبنجة جيدا, ثم اعترض بذراعه البيت بول : بطاقتك, لم يفهم البيت بول جيداً, التفت إليه في دهشة و تدلت شفته المقلوبة قليلا حين لمح الطبنجة, بطاقة إيه يا بيه, إنت حتستهبل يا روح أمك, أمسك بتلابيت البيت بول جيداً, و شده إلى الحائط المجاور إلى الكشك, هبده على الحائط فنزل بعض الركاب للتخليص, سايب أم الميكروباص في الشارع ولا كإنك راكنه في أوضة نوم أمك, لم يرد البيت بول, صمتَ تماماً وهو يرمقه بنظرة حيوانية ثابتة, حاول بعض الركاب تهدئة الأمور, خلاص يا باشا, معلش يا باشا, لكنه كان قابضا على تلابيب البيت بول بقبضة مغلقة واحدة , يدفعه بها في عنف إلى الجدار, كأنه يوازن بين قوة كل منهما الجسدية الآن و بينها في لقاءهما الأول, كان يرى نظرته الحيوانية اللامعة في عينيه القبيحتين البارزتين تحت جفنيه, فتطفح من صدره الكراهية, مرّة و حارقة, يحدق في وجهه الكلبيّ و يتذكر ما حدث, يتذكر كل الليالي التي قضاها مشوّشاً و مفصولاً عن حياته, أرقاً و مهاناً و مفزوعاً, عشرات الساعات في صالة الحديد, التمرينات الطويلة على الأداء: الصراخ أمام المرآة, ضبط اللهجة, محاكاة مشاهد الاشتباك, كان فيها البيت بول دائما هو الخصم, متحرّشا بزوجته, أو ابنته أو معترضاً طريقه في شارع مظلم, جولاته الطويلة في الشوارع, و فرائسه المرتعدة, و الآن, و بعد كل ما حدث, بعد كل ما كلفه, و بعد كل ما ناله, يرمقه البيت بول بهذه النظرة الجافية القبيحة دون أي توسل أو شعور بالرهبة أو الاستعطاف, سحب الطبنجة و ألصقها في صدغ البيت بول الذي تجمّدت ملامحه على تلك النظرة الحيوانية الجامدة, تعالى الصراخ من وراءه في هلع: خلاص يا باشا...خلاص يا باشا, ضغط على الزناد.



Friday, October 8, 2010

في الطريق إلى درويش





توقف "أحمد الطباخ" فجأة على كوبري قصر النيل, شهق ثم صرخ مغطيا فمه و هو يميل إلى الأمام كأن شبحاً ركله بين ساقيه, انزعج "خالد عبد القادر" و صاح فيه: مالك ياض؟, تمالك "الطباخ" أنفاسه ثم قال و هو يشير أمامه, في تجاه الأوبرا: درويش يا خالد..محمود درويش النهاردة في الأوبرا يا خالد , التفت "خالد عبد القادر" تجاه الأوبرا, تذكّر الميعاد المنسيّ, و الذي قرر مع الطباخ ألا يفوّتاه مهما كان الصنف الذي يدخنانه, و تذكر لم حضرا من الأساس إلى الكوبري في هذه الساعة , ألقى السيجارة من فمه, ثم أمسك "الطباخ" من تلابيبه و سحبه ركضا إلى الأوبرا, لم يكن هناك أي وقت لتضييعه, "محمود درويش" بعد دقائق قليلة سيكون في قاعة مسرح الهناجر ليتم تكريمه متبوعا بإلقاءه لقصائده, انقطعت أنفاس "الطباخ" فترك "خالد" ياقته و واصل الركض, وصل"خالد" إلى القاعة المكتظة بالسواريه و البدل السوداء , سأل رجل الأمن على البوابة بأنفاس مبهورة: درويش فين؟, دوريش مين ؟, محمود درويش, آه...في الحمام, كان "الطباخ" قد وصل, صرخ "خالد" : في الحمام يا أحمد..درويش في الحمام, ركضا معا إلى دورة المياه, دفعا الباب و وقفا على رأس الممر الذي تصطف على جانبيه الكابينات المغلقة, أرهفا السمع, درويش الآن وراء أحد هذه الأبواب, التفتا إلى بعضهما البعض, ثم انطلقا يركلان الأبواب واحدة تلو الأخرى, قرب النهاية, ركل الطباخ الباب فارتطم بجسد بالداخل, فتراجع و شهق, وصل " خالد", فتشبث به الطباخ, دفعا الباب في حذر, كان الشاعر " نيازي" يتأوه بالداخل جوار التواليت, كزّ خالد على أسنانه وهو يركله بعنف: مش هوّ يا أحمد...مش هوّ, انطلقا خارج الحمام, سمعا تصفيقاً ينبعث من نهاية الردهة الرئيسية التي تفصلها عن مكانهما سلالم طويلة, ركضا في اتجاه التصفيق, و هناك, في نهاية السلم, كان "دوريش" يخطو ببطء بينما يستقبله الجميع بتصفيق متواصل, قطعا السلم في وثبات معدودة, دخل " درويش " القاعة, و جلس في الصف الأول, تحوطه مجموعة كبيرة من الأدباء و الشعراء, وفي لحظة فريدة, بدا فيها و كأن "درويش" يحظى أخيرا بلحظة صفاء نادرة, لم يعد أحد يطلب منه المصافحة أو التصوير, شد " خالد" الطباخ من ياقته : يلا ياض, لكن "الطباخ" تراجع, عاد خظوة إلى الوراء, غطى فمه براحته مجددا وهو يهزّ رأسه بينما تترقرق الدموع في عينيه, "يلا ياض", "مش قادر يا خالد", ربّت خالد على كتفه, احتضنه فبكى الطباخ بحرقة, أمسكه "خالد من كتفيه : "طيب خلاص خد إنت الكاميرا و صوّرني معاه", تناول الطباخ الكاميرا في وجل, فتبين أنها كاميرته المسروقة منه منذ شهور, كان "خالد" قد وثب إلى المقعد الشاغر جوار "درويش", التفت إليه الأخير في قلق, ابتسم خالد: "إزيك", " بخير", "أنا خالد عبد القادر و ده أحمد الطباخ", ردّ درويش بارتباك "سامع فيكن", " سامع فينا إيه بس يا عم...بص هناك ", و أشار إليه حيث يقف الطباخ, فالتفت "درويش", كانت يد " الطباخ" ترتجف, كانت يده ترتج, لم يتحمل وقع المفاجأة, لكنه في النهاية فعلها, ربما حين فكر أن درويش ينظر الآن للكاميرا لا إليه, ضغط على الزر ثم سقط..






Thursday, June 17, 2010






Producer




حين وصلنا إلى موقع التصوير, أخبرت خفير الحراسة أننا نصوّر فيلما دينيا عن الشيخ, و أشرت ورائي إلى البروفيسير , الذي كان يقف على مسافة يتأمل المكان بعمق مداعبا لحيته البيضاء الصغيرة المهذبة, كان مدير الإنتاج قد أكّد لي استحالة أن يقوم هو بهذه المحاولة مسبقا, بهيئته و أسلوبه الذين لن يروقا كثيرا لخفير حراسة مشروع إنشاء مسجد كبير على طريق أكتوبر, لم يكن اختياري للمكان عبثيا أو قابلا للتفاوض أو البدل, كان بالضبط كما تخيلت : مسجد كبير فخم, بقبة كبيرة على هيئة فطر عيش الغراب, مسحوبة من الجوانب إلى أسفل, لم يتم بعد بناء الحوائط بين أعمدته الأسمنتية التي ترفع عارية من الطلاء القبةَ الضخمة, بحيث يبدو في هذه المرحلة من إنشائه كمعبد قديم مفتوح للهواء من كل الجوانب , يقع المسجد في الطريق بين القاهرة و مدينة أكتوبر, بحيث تحيط به من ثلاثة جوانب صحراء مفتوحة و طريق سريع, عند وصولنا إلى المكان قد كنت نزلت و طلبت من البروفيسور التجوّل بحرية, ثم اتجهت إلى الخفير الذي انتبه منزعجا إلى وصولنا, ظل يتأمل السيارة التويوتا البيضاء طوال مدة مفاوضتي معه, كأنه يحاول أن يستنتج صحة كلامي من هيئة فنيي الإضاءة و الصوت الذين طلبت منهم البقاء في التويوتا , أخبرته أننا نصوّر فيلما عن الشيخ إياد , شيخ من سوريا, و أننا نحتاج إلى ساعة لا أكثر في هذه الساعة الميتة من اليوم للتصوير_كانت السادسة صباحا تقريبا_ داخل موقع المسجد و أن ذلك سيكون بترضية مناسبة له, حُلّ الموضوع بعد أن تأمّل الخفير شيبة البروفيسير و كهولته المطمئنة التي يتحرك بها في المكان بألفة عميقة, ثم بمئة جنيه دسها على الفور في جيب جلبابه العميق فور تناولها مني, ارتكز بعدها أمام غرفته الصغيرة في تيقّظ مشوب بالنعاس, أشرت من بعيد إلى " مايكل" و "فادي "و " حنّا " و عم " منير ", فنزلوا بالمعدات و الكاميرا بسرعة, سرت إلى البروفيسير إياد الذي كان قد دخل إلى مركز المسجد, يتأمل قبته من الداخل في هدوء, كنا قد تحدثنا طويلا ليلة أمس عن الموضوعات التي سنطرحها في هذا الموقع, ثبت الفنيون الإضاءة و معدات الصوت, انشغل " مايكل" بكاميرته و ضبط اتزان الضوء في صمت , و بينما كان " حنّا" يركّب الميكروفون الصغير في قميص البروفيسير, كان الأخير قد بدأ يحدثني بانبهار عن عمق و سطوة الإحساس الذي يتولد لدى الناس عند تواجدهم في أماكن كهذي..طريقة البناء الناهضة إلى أعلى, كنوع من الابتهال الصاعد و المتضاعف في طريقه إلى السماء..القباب العالية الوسيعة, أكد أنه على الرغم من كل قناعاته العقلية لا يزال يجد مكانا كهذا مهيبا و مؤثرا فيه على نحو سحري .., بدأنا على مهل,و كان صوت البروفيسور يرن في فراغ المكان, الذي بدا أثناء التصوير في مرحلة وسط توحي بمصيرين , شبه مكتمل_ شبه منهار, صورنا لقاءا طويلا مع البروفيسير في عدة مواضع من المكان, ثم صورنا لقطات كثيفة لحركته في المكان و للمكان ذاته من الداخل و الخارج بعدة زوايا, كنت أعرف مسبقا أسلوب البروفيسور إياد و كاريزمته الشهيرة في طرح أفكاره بتسلسل ملفت: إياد أبو بكر , المفكر السوري الكبيرو أستاذ علم الإجتماع بعدة جامعات أوروبية, أحد أهم المهتمين بنقد فكرة الدين و نظرية الخلق, لم يكن لادينيا أو إصلاحيا ثوريا رومانطيقيا, بل ملحدا علميا صرفاً , يؤمن بقيمة العلم كمحور أساسي يرتكز عليه المجتمع الإنساني الحديث بكل مثله العليا, التي يحط منها الدين في رأيه, بأشكاله المختلفة و بفكرة الإله غيبيّ الإرادة, أثناء اللقاء لاحظت أن "حنا" _فنّي الصوت_ بدا عليه كأنه قد بدأ يدرك للتو أنه تعرض لخدعة ما, ربما لمتابعته الحوار عبر السماعات الموصلّة بالكاميرا التي يتابع منها جودة الصوت و نقاءه , كنت قد أخبرت فريق التصوير قبل يومنا هذا _ الأوّل في جدول التصوير المفترض للفيلم _ أننا نعمل على فيلم وثائقي يتحدث فيه البروفيسير و عالم الإجتماع السوري "إياد أبو بكر" عن عدة موضوعات متعلقة بالنقد الإجتماعي, كالتدين و الإحساس الديني, لم يكن عم "منير" _ فني الإضاءة_ مهتما بمحتوى الحوار و ظل طوال الوقت يتأمل المكان حوله أو يدخن أو يلعب في الموبايل, "فادي" _ مدير الإنتاج_ كان نائما في التويوتا , أما "مايكل" _ مدير التصوير _ فكان منغمسا كعادته في جودة الصورة و كان بارعا في ذلك..
اتصلت عليّ "رانيا" مرتين فخمنت أن هناك مشكلة ما في يوم التصوير الذي بدأته صباح اليوم, كانت تعمل على فيلم وثائقي عن فنان تشكيلي مصري شهير, لم أكن مبهورا بأعماله ولا هي حقيقة, لكنه نال مؤخرا اهتماما عالميا بمشاركاته المتتابعة في معارض و تجمعات فنية عالمية ترحّب باتجاهه الفنيّ, ومن اللحظات الأولى لإعداد الأمور, بدا أن الفيلم الذي تعمل عليه "رانيا" كما نقول _ أبناء الميديا_ "قماشته صعبة", فأجّلت الرد إلى ما بعد.


2



بعد أن غادرنا المكان إلى مطعم "جاد" في أكتوبر لتناول إفطار سريع بدأ الكلمات تتصاعد ,كنا قد ظللنا صامتين تماما في وجود البروفيسير"إياد" معنا في التويوتا , حيث أوصلناه إلى الشقة الفخمة التي استأجرتها له شركة الإنتاج للإقامة طول مدة التصوير, في "جاد" اقترب مني"حنا" و بدأ بحذر: هو الدكتور كان بيتكلم عن إيه ؟, " زي ما سمعت " ابتسمت و أنا أنفخ دخان سيجارتي بارتياح لنبدأ حوارا مكشوفاً . أخبرني "حنا" أنه انزعج تماما من تعبيرات البروفيسير إياد عن الله و عن الإسلام, و أنه شعر بانقباض رهيب أثناء التصوير_ هل كان يحاول إثارة غيرتي الدينية ؟ _ , لم يلتفت " مايكل" الذي كان يلتهم السندويتشات في تركيز, انتبه عم "منير" قليلا بينما ظل "فادي" كعادته يشير إلى الجرسون ببقية الطلبات و يتابع حساب قيمة المأكولات و يتكلم في الموبايل, قررت أن أفصح بوضوح عن حقيقة المهمة لكي أتجنب أي مفاجئات مستقبلية, خاصة بعد أن أتممنا أول تصوير بنجاح لم أكن أتوقع أن أرضى عنه بهذا الشكل, كنت منسجما تماما و ممتنا للبروفيسير, كان في الحقيقة ملحدا رائعا, لذلك تراجعت عن فكرة تغطية الأمر تجنبا لمواقف حماسية من أي أفراد فريق العمل , الذين أحتاجهم بشدة, كلهم معا و كل منهم على حدة , كفريق عملت فيه طويلا و أعرف قدراته الكبيرة على تشكيل منتج عالي الجودة, كان الأمر يشبه تضليل أطرافك و عينيك لتظل فكرة مربكة ما قابعة في ذهنك , ليتعامل معها الأخير وحده بعيدا عن توترات و ردود فعل بقية الجسد , اعتدلت إلى "حنا" و تحدثت معه أنني لم أكن أضلله حين أخبرته أن الفيلم يتعلق بالنقد الإجتماعي لأفكار كالدين و التديّن و وجود الإله, التفصيلة الواحدة الناقصة كانت أن أخبرهم البروفيسير إياد كان ملحدا أصيلاً, لا يرى خلف هذه السماوات الواسعة أي وجود واعٍ, مبرراً ذلك أنه لم يكن من الضروري إعلان ذلك إطلاقا, كي لا يتصرف أي أحد من أعضاء الفريق بطريقة عدائية تجاه البروفيسير لمجرد الاختلاف معه, أكدت على كلماتي الأخيرة منبها الجميع, سكت عم " منير" _ المسلم الوحيد في الفريق _ وبدا أنه كان قد بدأ يفكر في قلق إن كان الموضوع يستدعي منه أي مواقف, واصل " مايكل" _ مسيحي إنجيلي _ تجاهله للموضوع برمته , "فادي" كان غائبا عنا كالعادة في حساباته و مكالماته , أما "حنا" _ الأرثوذكسي الملتزم _ فقد اعتدل و صمت للحظة ثم التفت إليّ متجهما قليلا في جدية :" أستاذ محمود..الموضوع مش متعلق بالدكتور إياد مؤمن ولا مش مؤمن...المهم إيه اللي حنقدّمه للناس في الفيلم زي ده" , أسعدني أنه لا يزال يعبر عن الموضوع بصيغة الجمع في الفعل, كنت أعرف أن "حنا" مسيحيا متدينا إلى حد كبير, بالإضافة إلى كونه فني إضاءة ممتاز لا يمكن تفويته, لذلك قررت أن أتجنب الجدال حول فكرة القيمة و الجدوى, تخطيت ذلك إلى حدود أوضح, " بص يا حنّا...المطلوب مننا إننا نعمل شغلنا..الراجل ده مهم ..و العميل طالب إننا نعرض أفكاره على الناس خلال قنواته..أفكار البروفيسير إياد تخصّه..جودة الفيلم هو ده اللي إحنا بنقدمّه " , لم يبد على "حنا " الإقتناع الكامل بما قلت , التفتُّ إلى "مايكل " : ولا إيه رأيك يا باشا ؟ , " مايكل" كان قد انتهى من فطوره و بدأ يتابعنا بحياد, لذلك حين سألته بدا كأنه فوجئ بسؤالي, هز رأسه متفهما ثم قال:" والله أنا مش فاكر الراجل قال إيه بالظبط..بس أوكي..أنا موافق على كلامك..أنا راجل بروفيشنال...ممكن أشتغل في أفلام مش موافق على مواضيعها مادمت حعمل شغلي صح.." , انزعج "حنا " تماما من كلامه و ردّ بحدة زائدة: "يعني ممكن تصوّر فيلم بورنو يا عم مايكل؟" , بدا أن مايكل قد بدأ يستمتع بالحوار أو بمعنى اصح بإغاظة "حنا" , لذلك قال وهو يشعل سيجارة : ياسيدي ياريت...خلي فادي بس يدوّر لنا على سكة و أنا دايس , ضحكنا جميعا فيما عدا "حنا" , تلا ذلك حديث حرّاق معتاد عن أفلام البورنو و تكنيك إخراجها و مونتاجها بسخرية لاذعة, و حكى لنا عم "منير" فني الصوت المخضرم عن سوابق عمله في أفلام مقاولات رخيصة, و كيف كان يبدو الأمر أثناء تصوير مشهد ساخن في البلاتوه المزدحم بالفنيين و العمّال , استمر الحوار على هذا المنوال إلى نهاية مدة الفطور و استعدادنا للمغادرة, كنت بصفتي معدّ و مخرج العمل و منتجه الفني في نفس الوقت, لصالح الشركة التي تعاقدتْ عليه لصالح قناة إخبارية و وثائقية شهيرة ,كأنني قد أسقطت المسئولية من على كاهل الجميع تجاه آثام الفيلم لأحملها على كتفيّ وحدي , رغم أن "حنا" بدا لي مترددا إزاء استمرار مشاركته في الفيلم بصمته المتجهم و تفكيره الطويل, إلى الحد أنه و للمرة الأولى, جلس وحيدا في مؤخرة التويوتا شاردا من النافذة بينما دخّن الجميع و صخبوا في الطريق إلى شقة البروفيسير..



3



_ يا محمود أنا مش قادرة أستحمل فعلا, مشاكل من أول اليوم.

"رانيا", أحد أفضل المنتجين الفنيين الذين عملت معهم, و التي يلازمها سوء حظ مبهم منذ انضمامها إلى الشركة ..

= خير بس يا رانيا...إهدي و تعالي نفكر في حلول

_ مبدئياً, الضيوف بيتعاملوا معانا باستخفاف تام, مواعيد زبالة, و تناكة فوق الوصف, أنا أول مرة أشوف كده.

= فنانين بقى معلش يا رانيا ( محاولا تلطيف الأمور)

كانت على موعد للتصوير مع موسيقيّ كبير صديق للفنان التشكيلي, الموسيقيّ الكبير وعدهم بالتصوير الساعة العاشرة صباحا, حين وصلوا لم يكن قد استيقظ بعد, و بعد أن قضوا ساعة كاملة في ضبط اللوكيشن, خرج إليهم بملابس المنزل و عيون منتفخة ليخبرهم أنه فقد رغبته في التصوير.

- ولا كإننا مأجرين كاميرات ولا وقتنا بفلوس ولا بقالنا ساعة من ساعة ما فتحت لنا مراته قاعدين نجهز في كل حاجة...فنانين إيه و زفت إيه بس...حنعوّض الوقت اللي ضاع ده إزاي و إمتى..

= وعملتي إيه؟

- مفيش...طبعا قعدت أهدّي في المخرج و مدير التصوير و أقنعته نصور بكرة بالليل, حعمل إيه بس..الأستاذ التاني راخر مصمم إن ده اللي يتكلم عنه..

= كويس كويس...معلش..كله حيتظبط بإذن الله

- إنت إيه أخبارك؟

= معقول الحمد لله

- معلش أنا آسفة بس والله كنت مش عارفة أعمل إيه, قلت أكلمك أشوف عندك أي حل للموقف الزفت ده

= معلش يا "رانيا" حصل خير..إنتي اتصرفتي كويس جدا

- اوك..أسيبك بقى في اللي إنت فيه...سامحني معلش

= ولا يهمك

- أوك...سلام

= سلام يا "رانيا"..



4



صورنا لقاءات طويلة مع بروفيسير إياد في شقة أكتوبر, و قررنا أن نبيت جميعا معا في التويوتا, كما يحدث عادة في أيام التصوير المزدحمة, السائق و فادي و الفنيين على كنبات التويوتا جوار المعدات , بينما أنام أنا و مايكل في سيارتي , قبل أن ننقسم إلى النوم كنا قد تجمعنا في التويوتا لنصف ساعة نراجع تفاصيل اليوم , خمّنت أن "حنا" قد توصّل إلى حل نهائي مع ضميره القلق بشأن مواصلة العمل, مفاده أنه فعليا ليس مسئولا عن أفكار أحد و أن عمله ينصبّ على جودة الصوت بعيدا عن نتائج محتوى الفيلم, التي لا تضم محتوى محرّماً في ذاته, نويت أن أناقش معه لاحقا فكرة أن يكون الكلام محرماً , أن أعرف إلى أين وصل في ذهنه إلى تصنيف تعبيرات البروفيسير إياد السلبية عن الله و الدين عموما, وعن موقفه من كونه عضوا في فريق مسئول عن تمرير كلمة البروفيسور إلى الناس بوضوح بل و بفنيّة , و بعيدا عن ضغط و إلحاح فكرة " أكل العيش" التي أعتقد أنها كان لها نصيب الأسد من قراره, فقد أرضاني اقتناعه الجزئي أن من حق البروفيسير أو الإنسان الملحد في تقديم آراءه و أن يساعده آخرون , غير بالضرورة مقتنعين بأفكاره, في عمل ذلك, أو على الأقل , عدم ممانعته في ذلك. عم "منير" هو الذي بدأ ينزعج و يلحّ علي بمراجعة نفسي في إتمام ذلك الفيلم على نحو أبوي , دون أي إشارة إلى أي تفكير من جانبه في عدم مواصلة العمل, أخبرته أنني مثله بالضبط, أؤدي عملي المطلوب مني, و أن من حق الجميع التعبير عن أفكارهم , بل من المهم سماع الرأي الآخر في مسألة الدين, التي قد تساعد المتدينين أنفسهم على التثبت من أفكارهم..إلى آخر كل هذه العبارت التي هز عليها رأسه الكبير موافقا تماما وهو ينظر إليّ بعينين مفتوحتين مهتمّتين كثيراً بإبلاغي باتفاقه معي, "فادي" بدا عصبيا, ربما لمشادة لم أشهدها و تمت في غيابي مع "حنا" على توريط فادي للأخير في فيلم كهذا مما سيجعله يبدو الآن كـ(عيّل) راغب في الإنسحاب بعد بدء العمل , وهو الكفيل بتشويه سمعته المعقولة في السوق, عرفت تفاصيل المشادة من "مايكل " الذي حكاها لي بسخرية و استمتاع, كنت أعرف أنه يستمتع بالحكي عن "حنا" الصارم و الحاد في كل ما يتعلق بالدين و نقده المستمر للإنجيلي المتحرر صاحب الشعر الطويل الواصل إلى كتفيه و الحياة المنحلّة من القيم الأرثوذكسية . كون "فادي" مدير الإنتاج مسيحيا كان يدفعه إلى توظيف أكبر عدد من أخوته في الدين في أيام تصوير الشركة التي أعمل لحسابها, لذلك اعتدت على وجود عدد كبير من الفنيين و مديري التصوير المسيحيين حولي في العمل, وهو ما كان يخلق لي حالة من الإبتهاج حين أسمع نقاشاتهم و حواراتهم المندمجة عن الاعياد و الترانيم و تصوير الأعمال الفنية الدينية المسيحية داخل و خارج الكنيسة بمصطلحاتهم الدينية الخاصة غير المألوفة لدي, كان ذلك يشيع جوا من الأغلبية القبطية غير المعتادة. نمنا جميعا في هدوء, أرقت قبل الفجر بقليل, تأملت التويوتا من الشباك, بدت لي كشاحنة في مهمة خاصة , مكدسة بالبشر و المعدات, التصوير في مصر يشبه تهريب شحنة مخدرات, اختلاس و رشاوي و مطاردات , حتى في حالة وجود تصاريح, الأمن المصري يتعامل مع الكاميرا معاملة قطعة الحشيش, الشعب المصري يخاف من الكاميرا, لا أفهم لماذا تحديدا لكن ذلك مقبول في سياق مجتمعي منغلق و متخوّف, أذكر يوم تصوير في سوق الجمعة في منطقة القلعة, نزلنا إلى منطقة السوق بصحبة معلّم عتيد من أبناء المكان, تواصلنا معه عبر سلسلة من العلاقات الجيدة, و بدأنا في التصوير بسلام في وجوده, لكن بعد قليل و حين اضطررنا للإيغال وحدنا في دهاليز السوق , أنا و المصوّر فقط, لسهولة الحركة و من أجل اللقطات الأكثر طزاجة, بدأنا نتحسس في عيون الباعة و البلطجية نوعا من التوجّس, لأننا لم نكن نصور البضائع , كنا ندور بالكاميرا على الوجوه, فجأة صرخ أحدهم من أمام فرشته : إنتوا سايبينهم ليه...دول حيقلبوا علينا الدنيا . , لم أفهم, لكن المصوّر فهم, لأن البائع واصل الصياح و تجمهر حولنا عدد من البلطجية و الزبائن, في كل مكان في مصر هناك دائما ما هو مخبوء و غير شرعي و حيّ بالتغافل, الكاميرا الآن تهديد مباشر لنعمة التغافل, لم نخرج من هناك سالمين إلا حين سلمني المصوّر الكامير و صرخ فيهم بعنف أنه الآن في حماية المعلم فلان و اللي عايز ما يروحش لعياله يقرب ...إلخ, حين سألته بعد ذلك عن هذه المهارات الفذة , اكتشفت أنه نشأ بولاق, أنا من مواليد إمبابة , لكنه كان في الحقيقة أكثر حنكة مني,لأنني حينها كنت أحاول تهدئة الأمور بالتزام الهدوء و تبادل الكلمات الودية, وهو ما زاد من شكوكهم تجاهي, عايرني بذلك لفترة طويلة بعدها , تثاءبت في إرهاق , اتصلت بـ"رانيا", لم ترد عليّ, قضيت وحدي حوالي نصف ساعة أراجع برنامج الغد في مصر القديمة.



5



_ إزيك يا محمود

= إزيك يا رانيا..

_ معلش إمبارح معرفتش أردّ

= ولايهمك..مش عارفة أحكيلك إزاي اللي حصل إمبارح

_ إحكي..

حكت رانيا أنه بالأمس كانت تصوّر مع فنان تشكيلي كهل, صديق عمر الفنان موضوع الفيلم, الرجل من البداية لم يبد متعاونا كما بدا أثناء الاتفاق معه, محاولا تحويل دفة الحوار إلى لحديث عن أعماله الشخصية, بل و طلب من رانيا تصوير أعماله, رانيا حاولت باللباقة المتاحة أن تعيد الحوار إلى وجهته الأساسية, باللطف مرة و بالمزاح مرات, الرجل أظهر عنادا هائلا و بات الأمر معقدا جدا أمام رانيا, اتفقت مع مدير التصوير على ألا يسجل كل الهراء الذي سيقوله عن ذاته, و التسجيل فقط حين يبدأ في الحديث عن صديق عمره, لكن رانيا ارتكبت خطأ فادحا, حين نفد صبرها و الوقت يمر و يضيع و يتلاشى أمام طاحونة الكلام النرجسية المكوّمة أمامها, فذكّرته بلطف أن الوقت المتاح قارب على الإنتهاء ولابد من أن نتحدث قليلا عن أهم أعمال صديقه الحميم

انفجر الرجل بغضب عارم :

أهم أعماله..إنتي فاكرة نفسك بتتكلمي عن مين...محمود سعيد ولا عبد الهادي الجزار..لعلمك بقى..أنا من الأول و أنا حاسس إنك عايزة تهمّشيني..هوّ أصلا فنان مش مهم..أنا أهم منه...المفروض كنتوا تعملوا فيلم عني أنا.

تدخل الفنيون و عمال الإضاءة و مدير التصوير لتهدئة الرجل الذي نهض مغادرا الغرفة و وهو يصيح هائجا: أنا أهم...أنا أهم..

رانيا لم تصدق, أخبرتني أنها ظلت تضحك طوال طريق العودة من منزل الرجل إلى الشركة, ثم بكت في الشركة, ثم اتصلت بالمدير التنفيذي للشركة فلم يردّ عليها كالعادة, ثم عادت إلى البيت.



6



في الإيميل الذي وصلني من بروديوسر القناة, المسئول عن متابعة الفيلم من جانبها, كان الرجل واضحا بشأن عدم تحويل الفيلم إلى عرض خام لفلسفة البروفيسير بأي حال من الأحوال, كان عمق الفيلم هو الموقف العلني للبروفيسير إياد _الملحد العربي _ الذي يعيش بين أوروبا و سوريا و لبنان, دون قلق من أي مواقف عدائية من إعلان هويته الفكرية التي يتحدث عنها بحرية في كل مكان, حين سألت البروفيسير عن إن كان حدث و تعرض لأي محاولات للإعتداء عليه بسبب أفكاره, نفى ذلك تماما و وضّح لي أنه لا يحبذ أن نتطرق لهذه المسألة كثيرا في الفيلم, ذلك على الرغم من تعرضه لسيل متواصل من المهاجمات اللفظية على القنوات الفضائية و في المقالات اليومية و الأسبوعية في عدة مطبوعات عربية شهيرة, أخبرني أن ما حماه من غوغائية السلطة الدينية هو أنهم يعلمون أن أفكاره لن تصل أبدا للعامة على شكلها الحالي, ستظل حبيسة نخبويتها رغم شهرته الواسعة, و إن كان عليه أن يقلق _ يضيف البروفيسير_ بعد إذاعة هذا الفيلم على أشهر قناة إخبارية عربية, لأن ذلك أن هناك حاجزا ما بينه و بين العامة سيبدأ في التلاشي عبر الصورة و التبسيط الملازم للحضور على الشاشة, لم أكن أعرف سقف طموحات الرجل, و لكني لم أستطع أن أخبره أن عليه ألا يقلق تماما, في المونتاج سيتم تحويله إلى ملحد لطيف لا تؤذي تصريحاته أي مشاعر دينية خاصة, ربما لأنني أقدّر ذكاء الرجل و أعرف أنه يفهم جيدا طبيعة القناة التي وافق على التصوير من أجلها, كذلك كنت أعرف أنه يعمل منذ فترة مع مساعدته الفرنسية _ من أصل مصري_ على مخطوطات أولية لبحث حول علنية الإلحاد في الوطن العربي, و على الإنترنت بشكل أخصّ, لا كبحث تاريخي, بل نبش حاليّ في مواقع الملحدين العرب على الإنترنت و حسابات الفيس بوك و المدونات العربية التي يكتب أصحابها بأسماء مستعارة, , كان المشهد _ على حد تعبيره _ غير مشجعا على الإطلاق, البروفيسير بدا مستاءً من الأداء الحالي للملحدين العرب على الإنترنت بشكل عام, كان يراه هزيلا و استعراضيا و فارغا بقدر ما كان يجب عليه أن يبدو بما هو أليق به : رصينا و ثابتا و متزنا و عقلانيا, الإلحاد _ يقول _ هو الموقف العقلانيّ الأعلى في التاريخ, دون حلول وسط أو ترضيات مجامِلة , لا تستتبع أبدا هذه الروح العدائية العنيفة و العروض الهزيلة فكريا, إلى جانب المهارات اللغوية البذيئة التي تغلب على أعمال و كتابات ملحدي الإنترنت العرب, الذين لا يزيد أصحاب الهويات المعلنة فيهم عن أصابع اليد, وهو ما يراه منطقيا و مخزيا في ذات الوقت, حتى أن بحثه انحاز أكثر في تحليله للخطاب الإلحادي على الإنترنت إلى مشاهير الملحدين ذوي الهويات السرية مثل : بن كريشان و غيره, الذين بدأوا في التحوّل إلى ما يشبه الأيقونات , البروفيسير كان يرى أن ثقافة الإلحاد في الوطن العربي بدت له بعد بحثه الواسع على الإنترنت كما لم تبد من قبل : غير ناضجة ,مهزوزة ,ملتبسة على ذاتها, تطرّق الموضوع بعد ذلك بالطبع إلى تاريخ الإلحاد العربي, كنا أثناء ذلك مسترخيين تماما في شرفة شقة أكتوبر, نتأمل المدينة الجديدة في الليل, بدا مزاجه صافيا كسماء تلك المدينة, أعدت لنا "صافي" _ مساعدته نصف الفرنسية_ شايا بالنعناع, ساعد على فكّ أعصابنا إلى حد بعيد, قليلا و بدأت ذاكرة البروفيسير تتحرر, أخبرني أنه لم يعجب في حياته بأحد قدر إعجابه بالملحد العربي الكبير, الطبيب الفيلسوف و درة زمانه: زكريا بن الرازي, كلما قرأ مساجلته الشهيرة التي دوّنها أبو حاتم الرازي في كتابه " أعلام النبوّة" يشعر بطاقة غريبة تتدفق في عروقه, كان الرازي في مساجلته _يقول البروفيسير_ غاضبا و منفعلا و حانقا على عبثية المنطق الديني, غير منكر للوجود الإلهي بالكلية, لكنه كان إنسانيا إلى حد ملهم في ردوده على أبي حاتم, دون مواربة أو تخفٍ, على نحو ما فعل آخرون في التخفّي الحذر وراء معتقدات البراهمة و منكري النبوّات, بعرضها كأفكار غابرة بينما يضمنونها أفكارهم الشخصية مثل : ابن الرواندي أو ابن المقفع في "رسالة برزويه", كنت قد قرأت عن ابن الرازي, و خمنت أنني بدوت له غير مهتم وأنا مسترخ تماما على الكرسي أرشف شايي في هدوء دون أعقب أو التفت إليه, لأنه صمت فجأة و سعل و عبث في لحيته, شعرت بالحرج, اعتدلت و حاولت أن أعيده إلى حديثه المسترخي, سألته إن كان سبب إعجابه بالضبط هو إعلان إبن الرازي لموقفه, فتململ على مقعده ثم ردّ باسترخاء أنه لا يعرف تحديدا , و لكن ربما هو إتزانه و بهاء عقليته العلمية المنهجية, مسألة العلانية تحتاج إلى بعد زمني, على نحو ما حدث في نهايات القرن الثالث الهجري و بدايات الرابع, حين توقفت السلطة الدينية في تعقب الزنادقة و الملاحدة, لأنها شعرت أنها تحوّلهم لأيقونات و شهداء على حساب مصداقية سماحتها العقائدية, فتركت لهم الحبل على الغارب في تربّص مكتوم بعد فترة تعقّب طويلة, ذلك كان نوع من الانتصار المؤقت, لكن انتصار ابن الرازي كان لا زمنيّ, حيث ربط بذاته الإلحاد إلى عقلية علمية نادرة في التاريخ العربي و الإسلامي, سكت ثم أضاف فجأة, أنه لم يصل إلى علمه إن كان الرازي قد تعرض لملاحقات بسبب مواقفه, لكنه يعتقد ان ابن الرازي كان أنيقا بما فيه الكفاية لتتجنبه الغوغائية الدينية, فكّرت أن البروفيسير ربما يفكّر الآن في نفسه, سألني عن خططي المقبلة بشأن الفيلم, حكيت له باختصار جدولنا في الأيام القادمة, انتبهت "صافي" التي كانت منهمكة على اللاب توب بالداخل, نظرت إليها بطرف عيني فبدت لي أقرب إلى حبيبة سرية منها إلى باحثة مساعدة.



7



_ إيه الأخبار يا "رانيا"

= الحمد لله تمام

_ الأمور ماشية كويس معاكي...أنا بتصل بطمن

= معقول...مش فاضل غير الإنترفيو مع عم الموسيقار..أنا حكيتلك طلب مني إيه ؟..

الموسيقي الكبير, صديق الفنان التشكيلي, يطلب من رانيا أن توافق على دعوتها على الغداء في مطعم إيطالي بالمهندسين, معا بمفردهما, للحديث بشأن الفيلم و تحديد ميعاد للتصوير..

= تخيل..أنا طبعا فاهماه كويس.. من ساعة الموقف الزبالة اللي عمله معانا و كل ما أكلمه لتحديد مواعيد جديدة تناسب جدول سيادته يبدأ يحكيلي عن تعاسته الشخصية و احتياجاته الفنية في المرأة..و إن زواجه التقليدي ضروري لإستقراره النفسي بس هو بيحلم بأنثى مختلفة..أنثى تفجر طاقات أمه الإبداعية

_ أها..

= حاجة تقرف

_ طيب و حتروحي ؟

= لأ طبعا

_ و حتعملي إيه

= ولا حاجة يولع الفيلم..بلغت أكرم _ المدير التنفيذي _ و قلت له حدوّر على حد يتكلم تاني غيره

كنت أعرف " أكرم" جيدا, و تخيلت رد فعله خاصة وهو يعلم أن الفنان التشكيلي مهتم جدا برأي صديقه الموسيقي الكبير

- أها

= بص..لو أكرم قفش معايا في حاجة زي كده أنا حسيب الشركة فعلا...و بناقص قرف..المهم..إنت إيه أخبارك مع عم الملحد ده كمان

- تخيلي لو الضيوف سمعونا بنتكلم عنهم كده ..حيقولوا إيه

= حيقولوا إيه يعني..ما هما بيقولوا علينا أكيد أكتر من كده

_ تفتكري ؟

= آه طبعا...إنت فاكر يعني عم الفيلسوف بتاعك ده بيحترمك...أكيد بيفكر إن إنت واحد أرزقي و جاي تعمل سبوبة على حسه...وهو موافق عشان الفيلم يتعمل عنه

- أها

= بس طبعا إنت شكلك عمال تظبطه و تتكلم معاه الكلام الكبير بتاعكم ده فممكن يحترمك شوية

- هو راجل محترم من الأساس..

= ربنا يرحمنا من الأشكال الضالة اللي بنشتغل معاها دي...رسّام عيّان و ملحد

- ههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههه

= أنا والله خايفة ألاقيك اقتنعت بكلامه...أنا أصلا شاكة فيك يا "محمود".

"رانيا" في مأزق كبير, دعوة الموسيقار على ما يبدو لن تنتهي بسلام.



8



حوالي الساعة العاشرة صباحا, وصلنا إلى موقع التصوير, دون البروفيسير, الذي تركناه ينعم بجولة ودية في القاهرة بينما نصوّر لقطاتنا العامة, دلني على هذا المكان خزّاف مصري عبقريّ, صورت عنه تقريرا قصيرا منذ 3 أشهر, المكان يقع في منطقة عشوائية فقيرة يعمل أهلها في صناعة المنتجات الخزفية و الجيرية , بالقرب من مسجد عمرو بن العاص, أفطرنا في التويوتا ثم نزلنا, طلبت أن يكون معي "مايكل" فقط, سنصور دون إضاءة و بلا صوت إلا ما تسجّله الكاميرا, لقطات طبيعية بالكاميرا الحرة محمولة على الكتف, امتعض مايكل للحظة ثم تحركنا, وصلت إلى المكان المطلوب, ساحة كبيرة كفناء أو اسطبل قصر قديم محاطة بسور عال من كل الجوانب, اقتربنا من الباب, كان هناك عم "بدير" ,صاحب المكان الذي همّ لتحيتنا ببشاشة بناء على توصية الفنان الخزفي, الذي عمل معه كصبي لسنوات في مرسمه مسئول عن تجهيز أعماله و موادها الخام, فتح لنا الباب ثم انصرف, دخلت خطوة أو خطوتين ثم التفت ورائي, كنت أنتظر مايكل الذي كان مشغولا في ضبط الكاميرا ثم انتبه إليّ فخطونا معا إلى الداخل ,كان مفرودا أمامنا على امتداد البصر آلاف التماثيل الجيرية الملونة و البيضاء, الكاملة و النصفية و المهشمة , مبتورة الذراع أو الرأس أو ممسوحة الطلاء , للسيدة مريم و السيد المسيح, آلاف التماثيل مصفوفة على أرضية الساحة كمحفل إلهي مزدحم, متجاورة و متباعدة , منتصبة و مسنّدة و مستلقية ,أشرت إلى مايكل الذي استغرق في تأمل طويل أن يبدأ : لقطات عامة واسعة ثم لقطات قريبة, لم يبد أنه سمعني جيدا إذ تقدم بخطوات بطيئة في المكان ثم بدأ في العمل, قليلا و استغرف مايكل تماما في التصوير بينما نخطو بين صفوف التماثيل الإلهية المتراصة, كنت واثقا من قدرة هذا المكان على وَقْد روح مايكل, بحيث كنت إذا انتهيت من اللقطات المطلوبة عن تمثال ما , لا يكن هو قد انتهى بعد, فيتركني التفت منشغلا هو بالتقاط التفاصيل الأدق فالأدق من كل الزوايا كأنه لا يسمعني, بتعابير وجهه المثقلة المندمجة, كنا قد وصلنا تقريبا إلى مركز الساحة, في المنتصف من آلاف الآلهة المنتصبة حولنا, حين دوى صوت انفجار ما بالقرب و ارتج المكان, تمايلت الآلهة , كزجاجات كثيرة على مائدة غير ثابتة , تتماس و ترتطم وترتج , انحنيت على الأرض, انبته مايكل و بوغت , صرخ كأنما مست كتفه يد جافة في قبو مظلم , و سقط على الأرض , حاولت أن أناديه, لكنه كان قد نهض و التفت حوله في فزع و ركض خارج المكان كالفار من العذاب الأبدي..



9



ساعة كاملة قضاها مايكل متوحدا في التويوتا, رافضا الحديث معي و مع أي أحد, لم أكن قادرا على تمالك نفسي من الضحك , هو ذاته كان يبتسم خفية مشيحا بوجهه إلى النافذة , أفهمت الجميع أن هذه الانفجارات مألوفة في هذا المكان القريب من المقطم, حيث تتم تفجيرات منظمة منذ فترة بعيدة في جسد الجبل للحصول على صخوره الصلبة و تشذيبه بعد انهياراته الأخيرة, "حنا" حين حكيت له ما حدث استغرق في نوبة ضحك قاتلة, ثم جرى إلى الفناء الواسع ليرى المشهد بنفسه, اقتربت من "مايكل" وأنا أكتم ضحكي بصعوبة, متفهما ثقل ما حدث ولو على ذهنية إنجيلي لا مبالٍ, مايكل على ما يبدو كان قد تعرض لما قد يفوق تصوره هو عن ذاته إزاء التعرض للمقدس, "عم بدير" نفسه ذكرني أنه لا يدخل المكان ليلاً أو دون مرافقة, فقط يحمل صبيانه منه و إليه التماثيل التي يصنعونها أو يصلحونها في المواسم و الأعياد للكنائس و البيوت, شعرت بالذنب , لكنني قررت أن أتحدث كأن شيئا لم يكن , " بس الله ينوّر" , التفت إلى "مايكل" أخيرا وهو يبتسم على نحو غائم, عاد "حنا" وهو يشير إلى "مايكل" : دي بس قرصة ودن يا كبير..خلي بالك, قالها فشعرت بها على سبيل "إياك أعني و اسمعي يا جارة, لكن "مايكل" أخرج سيجارة جديدة و أشعلها و قال: طيب شوف الكاميرا سليمة ولا اتكسر فيها حاجة ثم التفت إليّ و التفت مجددا إلى النافذة..



10



_ هو أنا إيه..شغالة بروديوسر ولا حاجة تانية ولا إيه بالظبط

= بالراحة بس يا رانيا

- يعني إيه لازم أتغدى معاه..دي سفالة من أكرم مش حسكت عليها...إزاي يطلب مني كده وهو عارف و وضحت له إن الراجل بيبصبص لي علني

= ......

_ لا و بيقولي إني مغرورة و بتخيل حاجات و بدخل الشخصي في الشغل و إن الراجل طالب مقابلة عادية زي أي ضيف تاني قابلته...استهبال بقى...أعمل نفسي عبيطة و أروح عشان خاطر الفيلم...لا..ده عند أمه...يولع الفيلم بالشركة باللي فيها

= يا رانيا الموضوع ممكن يتحل ببساطة

_ حتى لو فيه حلول..كون إني أشتغل مع بني آدم بيفكر بالطريقة دي فدي كارثة لوحدها...( رانيا تصرخ )..أنا زهقت..أنا قرفت...أنا بكرة حروح أقدم استقالتي و حشتكيه في الإدارة.

= يا رانيا أكيد أكرم ما يقصدش...إنتي عارفة أكرم كويس

- بص...هو أنا و أكرم ما بنقبلش بعض من زمان..فبيحط لي العقدة في المنشار..وأنا مش حسكت

= خدي وقتك بس و فكري كويس

- سلام يا محمود



11



صوّرنا عدة لقاءات طويلة , مع قساوسة و كهنة و ممثلين رسميين للكنيسة الأرذوكسية و الإنجيلية في مصر, و مع أحد مشايخ الصوفية و داعية إسلامي شاب و شيخ أزهري كبير, كانت كلها تدور حول تقييمهم لتجربة البروفيسير و علانية موقفه , لقاءات روتينية اتسمت بضحالة تامة من الجانبين, أنا لكوني مضطرا لتنفيذها وفقا لتصوّرات القناة المنتجة, و هم لأسبابهم الشخصية أو عدم استعدادهم للقاءات كهذي , أو أنا الذي تكوّنت لدي قناعة أن السماحة التي تكلموا بها عن احترامهم لموقفه سماحة إفتراضية, كذلك ذلك الهدوء التام و اليقيني الراكد في أرواحهم , تعاملهم مع موقف البروفيسير بتعالٍ , كمبشر أوروبي يربّت على رأس طفل إفريقي , هل أنا متعاطف و منحاز إلى إياد أبو بكر ؟ , لم أواجه أي مشاكل جديدة مع الفريق, الذي بدأ يعتاد على موضوع الفيلم بشكل أسرع مما توقعت, فقط " مايكل" استغرق وقتا أطول مما توقعت هذه المرة حتى يتعافى من تصوير ساحة الآلهة, لكنه عاد مجددا لجر شكل "حنّا" و التدخين بشراهة و العبث في شعره بغرور بعد أي تصوير يعزز صورته لدى ذاته كمصوّر محترف, اقترب جدول التصوير من نهايته, و قررت أن يكون التصوير الأخير للبروفيسير , عكس ما كان مقررا, أن يكون فوق سطوح منزل في إمبابة, منطقتي الأم, بدلا من حديقة الأوبرا, امتدت خلف البروفيسير منازل الطوب الأحمر بقرونها الحديدية الكثيفة و أطباق الفضائيات الغزيرة, كان يستند بظهره إلى سور بسيط من الطوب الأحمر بينما يمكن رؤية زحام هائل من البيوت و المآذن وراء كتفيه, كان سعيدا جدا بهذا الموقع و غمره تصويرا وهو و "صافي" بكاميرته الشخصية, كان الإنترفيو الختامي عن تقييمه الشخصي لتجربته, عن القيمة التي يعمل علىتحقيقها خلال عمله, وبابتسامة بسيطة مسترخية قال البروفيسير أنه سيعمل من هذه اللحظة على الوصول إلى الناس, هذا كان السبب الأساسي في قبول تصويره لفيلم عنه, سيصدر طبعات جديدة من كتبه بلغة مبسطة و قريبة, و لن يترك فيلته في دمشق, سيبقى هناك سواء تحت الحماية أو لا, محاولا أن يكون نموذجا لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من الثبات على موقفه و إعلانه , و تحمل أي تبعات لذلك , ممهدا طريقا ما ولو وعرا للقادمين من خلفه,أن يكون كما يصف نفسه, نواة أولية مصممة على البقاء في تربة رافضة لها فتعتاد على ملمسها و تتشعب فيها جذورها الصغيرة, عقب التصوير لاحظت أن "حنا" كان يراقبه بحرص ثم أعرض عنه كليةً, عم " منير" كان يمزح كالمعتاد حيث عقد صداقة لطيفة مع البروفيسير مع الوعد بزيارته في سوريا, دعوت البروفيسير إلى الشاي في منزل أهلي في بناية قريبة.



12



كنت مع "رانيا" في سيارتها الصغيرة حين رن الموبايل, كنا نبحث عن مكان نجلس فيه قليلا بعيدا عن الشركة, اشتبكت هي و أكرم مجددا و صرخا أمام بعض بشكل هستيري, الفيلم تعطّل و الموسيقار انزعج من تجاهل رانيا لدعوته و بدأ يراوغ, نصحتها أن تترك المشروع بالكامل لأي منتج فني آخر, لكنها كان لديها نوع من الالتزام الأخلاقي تجاه الفيلم

_ مش عايزة أسيبه في النص..مش أنا اللي أعمل كده حتى لو حستقيل من الشركة...لازم أكمل شغلي..

أعتقد أن الأمر كان ينطوي على نوع من التحدي بالنسبة لرانيا أمام ذاتها, بدت لي وهي تقود سيارتها الصغيرة بتجهّم , شخصا نبيلاً و نظيفا تماماً, لم أكن أعرف فيم تفكر تحديدا, و صمتّ لأنها على ما يبدو كانت تحتاج للتفكير , حين رنّ الموبايل, أمسكته بعنف, خمنت من على الطرف الآخر فوراً :

_ ألو...بص..إحنا خلاص مش حنصور معاك...بلا إنتي بتكلمي مين بلا زفت...إنت أصلا مجرد حيوان...لا موسيقار كبير و لا خرا...ينعل أبو الفن اللي يعمله بشر أمثالكم يا ولاد الكلب.

أغلقت الخط و ألقت الموبايل جوارها بعنف...أنا منبهر..أنا منبهر.



13



دعاني البروفيسير على العشاء, بمناسبة انتهاء التصوير, بصحبة "صافي", كما لو كان قد لاحظ فجأة أنه تقريبا لا يعرفني, " كنت مشغول بالفيلم عنك يا أستاذ محمود" قال مبتسما و كأنه يعتذر عن أننا لم نندمج معا بالشكل الكافي, في الوقت الذي كنت اعتبر ذلك تقصيرا من جانبي أنا بصفتي المسئول عن التواصل مع الضيف, ربما لأنني بالفعل كنت قد تعرفت إليه بكثافة عبر كتبه و مقالاته التي أنغلقت عليها قبل عدة أسابيع من بدء التصوير و رغم سؤالي له عن كل تفاصيل حياته الشخصية, و التي قدمنا بعضها فقط للمشاهد, تبعا لتعليمات و مخاوف القناة المنتجة من أن تقدم أكثر مما ينبغي من المعلومات الشخصية عن "ملحد عربي", لكنه على ما يبدو كان يقصد التواصل الإنساني الأعمق, المعرفة الحقيقية للشخص, و بالرغم من أنه لم يسألني مرة واحدة عن قناعاتي الدينية, فقد اهتم أكثر بتاريخي المهني: تخرجي من كلية الطب, التحاقي بالعمل في الميديا, كتابتي للشعر, و اعتبر ذلك مؤسفا جدا ألا أكون صاحب رؤية محددة في الحياة, افتقادي للتركيز قد يفوّت علي وعلى الآخرين فرصة الاستفادة مني بشكل كافٍ, اعتبرت ذلك إطراءا بينما كنت موقنا أن البشر جميعا لدى البروفيسير مفيدون بشكل أو بآخر, لفتت انتباهي "صافي" بعربيتها ذات اللكنة : بالمناسبة البروفيسير استمتع كتير بالشغل معاك, كلمني عنك بتعبيرات إيجابية كتير. امتننت كثيرا, و تمنيت له حياة طويلة سعيدة, فتوقف بالشوكة أمام فمه و قال بابتسامة واسعة وهو ينظر إلينا معاً: الله يحفظك , ثم مضغ باستمتاع بينما أضحك أنا و "صافي ".